مراجعات الجهاد.. الواقع والتأثير مصطفى عياط تفرّق الباحثون والخبراء في قراءتهم للمراجعات التي أعلنها الدكتور سيد إمام -المفكّر الأبرز في جماعة الجهاد المصرية، وأميرها السابق- إلى مذاهبَ شتى، ما بين مرحّب ومتشكّك ومتحفّظ، كما أن الرؤى بشأن مدى تأثير هذه المراجعات على التيارات الجهادية في العالم، وتنظيم القاعدة خصوصًا، اختلفت هي الأخرى، فالبعض اعتبرها ضربة قاصمة للقاعدة، فيما رأى آخرون أن سيد إمام قد تجاوزته الأحداث منذ زمن، وأن التنظيمات الجهادية باتت تنتج أدبياتها ومرجعيتها الفقهية بشكل ذاتي. لكن، وبعيدًا عن القراءة في النوايا أو تحديد الأوزان، فإن الأمر المؤكد والتأثير المباشر لمراجعات سيد إمام، يتمثل في كونها أسْدلت الستار على ملف الجماعات الجهادية الكبرى في مصر: (الجماعة الإسلامية والجهاد)، مع ما يعنيه ذلك من إغلاق شبه تام لملف أكثر من 30 ألف معتقل، قضى بعضهم أكثر من 20 عامًا في عتمة الزنازين ووراء قضبانها الغليظة. إغلاق ملف المعتقلين -والذين أطلق بالفعل سراح المئات منهم منذ انتهاء "إمام" من بلورة المراجعات وإقرارها من جانب قيادات جماعة الجهاد في السجون- يشكل بالفعل، خطوة مهمة طالما تعالت الأصوات المطالبة بها، كي تقي المجتمع من تبعات نشأة "جيل غاضب" جديد خلف قضبان السجون، مما قد يشكل "وقودًا" لموجة عنف أخرى على غرار ما عرفته البلاد خلال النصف الأول من حقبة التسعينات. إطلاق المعتقلين يشكل خطوة أولى يجب أن تتبعها خطوات أخرى؛ لإعادة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع، خاصة وأن الكثير منهم قضى أكثر من نصف عمره داخل المعتقلات. وهذا الدمج يجب أن يكون شاملاً، أي يشمل الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية من خلال توفير فرص عمل وحياة كريمة لهؤلاء المعتقلين، إضافة إلى التفكير في صيغة لدمجهم في التيار المجتمعي العام، سواء كحزب سياسي أو جماعة دعوية أو منظمة مجتمع مدني، ولا يهم أن يتم ذلك في صيغة فردية أو جماعية، إنما المهم هو إتاحة حرية الحركة لهؤلاء المعتقلين، وتجنُّب عزلهم؛ كي لا يعودوا مرة أخرى لبيئة العنف. أسئلة المستقبل وإذا كان إعادة دمج المعتقلين في المجتمع يشكل أحد أسئلة المستقبل لما بعد "مراجعات سيد إمام"، فإن البعض يتحفّظ على فكرة طرح سيناريوهات لما بعد تلك المراجعات، ويعتبر أن سيد إمام قد طوى بمراجعاته صفحة "جماعة الجهاد"، كجماعة تبنت الفكر الانقلابي منهجًا لتغيير المجتمع، للأبد، وأن التجارب التاريخية تشير إلى أن تلك الجماعات شكلت دومًا "شذوذًا" على التيار العام للمجتمعات الإسلامية، وأنه سرعان ما يتبع انكسار شوكتها العسكرية، انكسارًا وذبولاً لأفكارها المتشددة ثم تندثر وينتهي أثرها. ويفرق مؤيدو هذه القراءة بين جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية، فالأخيرة في الأساس جماعة دعوية اجتماعية، والعنف شكّل استثناءً على نهجها العام، وبالتالي فإن إعادة دمجها في المجتمع، سواء بشكلها الحالي أو بصيغ جديدة، يعد أمرًا مرجَّحًا، أما جماعة الجهاد، فإن العنف شكّل نهجًا أساسيًّا في فكرها، وهو ما يجعل تلاشيها أمرًا متوقعًا. وبشكل عام، فإن القراءة التي تطرح "مستقبلاً مغلقًا" لفكر جماعة الجهاد لا تعني التقليل من حجم التحول الذي تضمنته مراجعات منظر الجهاد، وذلك إذا ما قيست بما طرحه في كتابيْه القديمين "العمدة في إعداد العدة" و"الجامع في طلب العلم الشريف". ومع أن "إمام" ينفي وجود مثل هذا التحوّل، ويعتبر أن ما طرحه في "العمدة" و"الجامع" كان مجرد نقل للآراء النظرية لعلماء السلف دون أي إسقاط لها على الواقع، وأنه "لا يجوز العمل بها إلا بفتوى من مؤهل لذلك، بصير بالشرع وبحقيقة الواقع"، إلا أن هذا الاستدراك من "سيد إمام" يعد في حد ذاته تطورًا مهمًا؛ فالالتفات لفقه الواقع -بما يتضمنه من مآلات وأولويات وترجيح ما بين المصالح والمفاسد وقياس لحال القدرة والاستضعاف- كان غائبًا عن فقه الجماعات الجهادية، حيث استعاضت عنه بنصوص فقهية منزوعة من سياقها التاريخي والواقعي، وهو ما جعلها تحلق بعيدًا عن التيار الفقهي العام. العودة للواقع عودة إمام إلى الواقع، ومحاولة تكييف أحكام فقهية توافقه -بغض النظر عن مدى الاتفاق معها من عدمه- تشكّل الملمح الأبرز في المراجعات، حيث تفرع عنها عددٌ من التحولات الفكرية، مثل اعتبار عامل الاستطاعة والقدرة معيارًا رئيسيًّا للحكم، والأخذ بالمآلات والمصالح والمفاسد، والاعتبار بالخلاف بين العلماء والترجيح بين آرائهم، والاستشهاد بالشواهد التاريخية، وطرح عنصريْ الزمان والمكان كأحد محددات الفتوى. ومع أن بعض المحللين ذهب لاعتبار هذه التحولات بمثابة عبور بجماعة الجهاد من فكر "الفرقة" إلى فكرة "الأمة"، إلا أن ذلك يحمل قدرًا من المبالغة، فالأفكار التي حملتها وثيقة المراجعات مازالت على "مشارف" فقه الأمة، فاللهجة التكفيرية مازالت حاضرة وبقوة لدى "سيد إمام"، وبخاصة في الحوار الذي أجراه مع صحيفة "الحياة" اللندنية، ونشرته على حلقات، فالرجل كان عنيفًا وقاسيًا على مخالفيه في الرأي، وتكررت اتهامات "التكفير" و"التفسيق" و"التخوين" و"العمالة" مرارًا بين سطور الحوار، بل واعتبر "إمام" أنه لا مجال للرد على المراجعات أو نقدها، وأن من يفعل ذلك إنما يرد على الله ورسوله وكبار علماء السلف، الذين استشهد بهم في وثيقة المراجعات، أي أنه يسحب القداسة والعصمة الخاصة بالنص القرآني والنبوي، لتشمل كذلك السياق الذي يتم في إطاره توظيف هذا النص، وهو ما يتصادم مع الفهم المستقر لدى التيار الفقهي العام. وكذلك تضمنت المراجعات اضطرابًا واضحًا فيما يتعلق بالرؤية التي طرحتْها لطبيعة العلاقة بين الحكام والمحكومين في ظل "واقع غير شرعي"، أي المجتمعات المعاصرة، حيث يشير "إمام" إلى أن خيارات مواجهة هذا الواقع تنحصر في "الدعوة والهجرة والعزلة والعفو والصفح والإعراض والصبر على الأذى وكتمان الإيمان"، وهذه الخيارات لا تأخذ في اعتبارها ظهور أشكال أخرى للعلاقة تعتمد على "التدافع السلمي"، بأشكاله المتنوعة من انتخابات ومجالس برلمانية منتخبة ومنظمات مجتمع مدني، فضلاً عن الإضراب والاعتصام والتظاهر السلمي. خلل عميق وهذا الغياب لعلاقة "التدافع السلمي" بين الحكام والمحكومين يبدو امتدادًا لغياب وخلل أعمق، تعاني منه الجماعات الجهادية وتيارات إسلامية أخرى، ويتمثل في فقدها إجابات واضحة حول كيفية التعاطي مع "الدولة القطرية" وما تطرحه من تحديات، حيث إن وضع "إحياء الخلافة الإسلامية" كهدف رئيسي على أجندة الحالة الإسلامية لا يعفيها من تقديم "تكييفات شرعية" للتعايش مع إشكالات الواقع الذي تفرضه الدولة القطرية، وما يتضمنه هذا الواقع من مستجدات مثل المواطنة والدستور وتنازع الولاء وفك الاشتباك بين مصالح الدولة ومصالح الأمة، وغيرها من الإشكالات التي تحتاج إلى أجوبة. وحتى لا نُحمّل سيد إمام ومراجعاته أكثر مما تستطيع، وهو الخطأ الذي وقع فيه الكثيرون ممن قسَوْا على المراجعات وصاحبها، بينما كان من الواجب أن يضعوها ضمن السياق الذي كُتبت داخله ووفقًا لطبيعة الجمهور المخاطَب بها، وفي ضوء خبرة وواقع كاتبها، فالمراجعات يجب أن تُقاس بما سبقها من اجتهادات داخل الحالة الجهادية، وخصوصًا ما جاء في كتابيْ "العمدة" و"الجامع"، كما أن المراجعات ليست خطابًا للجمهور العام، وإنما هي موجّهة في الأساس لأعضاء الجماعات الجهادية ومن يقاسمونهم نفس الخلفية الفكرية. أما فيما يتعلق بخبرة وإدراك "سيد إمام" للواقع، فإن الرجل قضى جُل حياته ما بين المناطق القبلية المتاخمة للحدود الباكستانية الأفغانية والمناطق القبلية في اليمن، وكلا المجتمعين بعيدان عن "الواقع المعقّد" الذي تعيشه حاليًا، معظم دول العالم الإسلامي، وبينما ذهب "إمام" في كتاباته القديمة إلى تأثيم هذا الواقع الذي يجهل تعقيداته، فإنه فضّل هذه المرة تجاهله تمامًا، وفي المرات القليلة التي اشتبكت فيها الوثيقة مع هذا الواقع جاءت الرؤية مضطربة وغير واضحة، فالمراجعات تجنبت اتخاذ موقف، سواء بالقبول أو بالرفض، تجاه تأشيرة الدخول التي تصدرها الدول الإسلامية، بينما تقر بصحة عقد الأمان الذي يعلنه الأفراد، والصيغة الأخيرة هي السائدة في المجتمعات القبلية التي عايشها "إمام". التأصيل للواقع وبالعودة مرة أخرى إلى سؤال التأثير المتوقع للمراجعات، فإنه يجب الإشارة بداية، إلى أن المراجعات تعدّ تأصيلاً لواقع مُعاش منذ أكثر من عشر سنوات، عندما قررت جماعة الجهاد وقف عملياتها في مصر، بعدما تعرضت لضربات أمنية قاصمة، وبالتالي فإن إمام في مراجعاته كان يؤصّل للواقع الذي انتهى إليه صراع القوى على الأرض بين الدولة والجماعة. ومن هنا فإن "إمام"، بما له من قيمة فقهية ومرجعية لدى التيار الجهادي، كان الوحيد القادر على صياغة هذا الواقع في إطار فقهي يحظى بالقبول لدى كوادر هذا التيار. أما فيما يتعلق بتأثير هذه المراجعات على تنظيم القاعدة والجماعات المرتبطة، فإن هناك قراءةً تعتبر أن القاعدة وخلاياها تستمد وقودها الفكري والبشري من الواقع البائس الذي يعيشه العالم الإسلامي، وخاصة في ظل وجود احتلالين أمريكيين في العراق وأفغانستان، وأن أي تأصيل فقهي يجب أن يأتي تاليًا لهذا الواقع. وفي هذا الإطار فإن القاعدة تصنع مرجعياتها الفقهية بشكل ذاتي، وسيد إمام كشخص يعد خارج تلك المرجعية منذ استقالته من قيادة وعضوية جماعة الجهاد 1993، ومع أن كتبه تعد من أدبيات التنظيم، إلا أن التنظيم يمارس ذلك بشكل انتقائي، كما حدث عندما تدخلت جماعة الجهاد لحذف أجزاء من كتاب "الجامع"، وهو الأمر الذي شكّل نقطة خلاف فارقة بين الجماعة و"سيد إمام"، وبالتالي فإن منطق الانتقاء والحذف كان حاضرًا وبقوة في علاقة "إمام" مع التيارات الجهادية قبل المراجعات، ومن المرجّح أن يصبح أقوى بعد الهجوم العنيف الذي شنه الرجل على القاعدة وقيادتها.