لا يسعنا ونحن نتابع باهتمام كبير نشاط المحامين في إطار نقابتهم الموقرة [ فرع طرابلس ] ، وبرعاية نقيبها الوطني الأستاذ / عبدالسلام دقيمش ، إلا أن نحيي ونكبر ونعتز بهذا الجهد والنشاط الذي يصب في مجرى تحريك الواقع السياسي ودفعه إلى آفاق أكثر ديمقراطية ، وذلك بفتحها المجال للنخب الواعية والمثقفة بكل أطيافها – في مقر نقابتها – أن تطرح للنقاش والحوار كافة القضايا ذات الحساسية الخاصة في ظروفنا الراهنة ، والمتمثلة في أوضاع غريبة وشاذة ارتبطت ببنية وشكل النظام السياسي في بلادنا على مدار العقود الثلاثة الماضية ، وكانت أسبابا جوهرية لتدهور واحتقان واقعنا من جميع جوانبه سياسية كانت أم اقتصادية ، وقانونية وتشريعية . هذا الحوار والنقاش الذي سيساهم بدون شك في خلخلة بعض المفاهيم والرؤى التي ترسّخت ، والتي تتسم بالقطعية وادعاء الصوابية المطلقة ، مستندة في ذلك إلى استماعها لنفسها ووجهة نظرها فقط مغيّبة وبالقوة أيّة وجهة نظر أخرى مختلفة ، ومرتكزة على منطق الإدانة والتخوين وبالتالي الإقصاء والتهميش . الأخوة المحامون فتحوا بتلك الندوات والحوارات الحرّة والصريحة ، وكذلك الجادة والعميقة والمسؤولة ، كوّة في الجدار الصلد الذي تمترس خلفه من ينبذون الحوار ويخافونه ، في الوقت الذي يحتكرون فيه العمل السياسي فكراً وتنظيراً وممارسةً ، بل وسلطة تشريعية وتنفيذية ، في الوقت الذي كانت فيه كافة القوى الوطنية الواعية والحريصة على مصير هذا البلد ومستقبل هذا الشعب تُجبر على البقاء صامتة متفرّجة وهي ترى إلى أين تتجه الأمور ، وحجم الإنهيار الحاصل في الدولة بكافة مؤسساتها – إن كان يحق لنا أن نسميها مجازا مؤسسات – وكذلك مرافقها ، وحجم الخراب الذي طال البنية التحتية بكاملها ، وكافة الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وثقافة وفنون ، ومستوى الإنهيار في القدرة الشرائية للمواطنين ، وظاهرة البطالة المستفحلة ، مما جعلهم يشكلون جيشا من الفقراء ، كما وأيضا التفاوت الطبقي الحاد ، مما سبب في إنهيار قيمي وأخلاقي وأفرز الكثير من الأزمات والمشاكل الإجتماعية والأخلاقية ، أبرزها تفشّي ظاهرة تعاطي المخدرات التي لم تعرفها بلادنا سابقا ، وكذلك انتشار الجريمة بمعدلات قياسية ، كل ذلك وهم مستمرون في تصديع رؤوسنا بأننا نعيش سلطة الشعب الذي يمتلك ثروته بالكامل وهو شعب سيد !! ، وأن هذا هو المجتمع الحر السعيد بعينه !! ، بل إن مجتمعنا هو جنة الله على الأرض !! ، وأننا ننعم بالديمقراطية التي لا تضاهيها ديمقراطية فهي مباشرة !!! . وفي ظل هذه الديمقراطية الفريدة ، كانت القوى الوطنية الصادقة والمخلصة لهذا الوطن وهذا الشعب والمبعدة قسرا تشاهد وتراقب وتتألم كونها غير قادرة على قول كلمة الحق والمجاهرة برأيها في التقييم والنقد واقتراح الحلول التي تراها صائبة ، كان الألم يعتصر قلوبهم وهم يرون وطنا تدفعه إرادة غير مخلصة لمصير لا يبشر بخير ، في ظل حكم فئة قليلة من الذين ادّعوا الثورية وحب الثورة وادّعوا – وتلك مفارقة مضحكة مبكيه – أن السلطة للشعب . إذا فإن هذه الكوة التي فتحها هؤلاء المحامون الوطنيون في هذا الجدار الصلد – كما قلنا – وأيضا السعي إلى توسيع هذه الكوة من أجل دخول هواء أكثر نقاء وأشعة شمس أكثر تألقا وبريقا لما تحمله من وهج للحرية والحب والتشاور بين كل أطياف هذا الوطن الذين يجمعهم حبه والعمل على تقدمه وتطوره ، وحب شعبه والعمل على سعادته ورفاهيته ، وليس مصالح أو امتيازات شخصية ، هذا النشاط السياسي والثقافي الإيجابي والبناء الذي تقوم به نقابة المحامين في طرابلس لأمر يستحق منا كل الثناء والتقدير والدعم والتشجيع . كان المحامون دوما – وفي كل الأقطار العربية تقريبا – فصيل رائد ومتقدم من فصائل النهضة والتنوير والعمل الوطني ، وهذا ناتج باعتقادي كون هذه الشريحة يرتبط عملها ونشاطها بالقانون في مواده وتطبيقاته ، وهو ما ينعكس على حياة الناس سلبا وإيجابا ، حيث يجد الوطنيون والشرفاء من هذه الفئة أنفسهم أمام واقع الظلم النابع من خلل القوانين والتشريعات وخلل تطبيقاتها ، الأمر الذي لا يستطيعون السكوت عنه ، وبما يؤكد انحيازهم لشعبهم ، ويجعلهم ذلك أيضا حملة لفكر مستنير ومنفتح بجدارة على المستقبل كقوى إصلاحية حقيقية فاعلة ومؤثرة في الواقع . لكن التيار الوطني الإصلاحي العريض ، والذي يريد ويتمنى بصدق لهذا الشعب تحقيق قدر أكبر من الحرية والرخاء ولهذا الوطن التقدم والإزدهار ، يجد نفسه أحيانا بين مطرقة وسندان المتشددين [ الراديكاليين ] من جهتي السلطة ومنتقديها ، مع ما في هذا الموقف في الحقيقة من اختلاف جوهري بينهما في التعبير عن هذا الإختلاف مع هذا التيار الإصلاحي ، فبينما نجد موقف المختلفين معه من خارج السلطة يتم التعبير عنه من خلال نقدهم الشديد – وهذا حقهم – بأنه لا يقرأ الواقع بشكل صحيح وموضوعي ، وبأن فهمه خاطئ وقاصر لما يحدث من حراك سياسي – والذي يراه الإصلاحيون مهم وإيجابي – إذ يعتبرونه مجرد تغييرات شكلية وصورية لا تمس الجوهر بشيء ، وأيضا حتى بأنهم مجرد انتهازيون يبحثون عن دور مفقود وعن مصالح خاصة ، وأخيرا إن هذا المشروع الذي يعتقده الإصلاحيون حراك سياسي وبوادر إصلاح يهللون له بهذا الحماس مما دفعهم للمشاركة فيه ، يعد وفي أحسن حالاته دون السقف المأمول . في الجانب الآخر فإننا نجد منتقدي الأصلاحيين والمتهجمين عليهم من داخل السلطة ، لا يكتفون بتخوينهم واتهامهم بالعمالة ومحاولة سرقة سلطة الشعب !!؟ ، بل العمل على إسكاتهم وإقصائهم بكل الطرق وسد كل سبل المشاركة المشروعة والعلنية أمامهم ، والتي انطلقت من رؤية الأخ / سيف الإسلام نفسه بأن هذا الوطن للجميع ، وللجميع الحق في قول رأيه واجتهاده المختلف ، وأن الحراك السياسي الذي شهدته الأشهر الماضية – والذي أجهض الآن أو يكاد – والذي بدأ بتوافر فسحة للرأي الآخر المختلف من خلال صحيفتين – شبه مستقلتين ؟ - هما أويا وقورينا ، إلى فكرة المنابر ، بل حتى الشروع فيها وطرح بعض القضايا للنقاش من خلالها [ كقانون الصحافة والمطبوعات ، ومنظمات المجتمع المدني ، إلى مناقشة مشروع الميثاق الوطني ( الدستور ) ] وقد أجهض مشروع المنابر هذا كما هو معروف ، وأيضا السعي إلى إشهار ، بل وإشهار جمعية العدالة لحقوق الإنسان والمركز الوطني للديمقراطية ، هذه المشاريع التي أجهضت بدورها ، كل ذلك كان ينضوي تحت شعار إن السلطة تبقى للشعب وحده – بل إن الإصلاحيين يريدونها سلطة حقيقية لهذا الشعب ، لكن كل ذلك لم يشفع ولم يحم أولئك الإصلاحيون الوطنيون - والذين يسكنهم فعلا حب هذا الوطن وهذا الشعب - من العنف والملاحقة ، وهو ما يذكرنا بمرحلة ماضية نريد ونحاول فعلا أن ننساها من أجل المصالحة ومن أجل الوطن الذي هو أهم منا جميعا . لكنني أخيرا أريد أن أذكر – وفي وقت خفُت فيه الحديث عن الإصلاح وضروراته - بأنه لابد من أجل الخروج بالبلد من حال الإحتقان ووضع الأزمة المستفحل ، وفي وقت حُلت فيه كل مشاكلنا مع الخارج ، ولم تعد هنالك من مبررات لأيّة قوانين أو أوضاع إستثنائية ، وتشهد بلادنا حالة من الإستقرار السياسي ، من التأكيد على ضرورة المضي في تحقيق بعض الإصلاحات الهامة والمتمثلة في الآتي : 1- فسح المجال لمنظمات المجتمع المدني وعلى جميع الأصعدة ، ووفق قوانين وضوابط يتم التوافق عليها . 2- فسح المجال لصحافة خاصة حرّة ومستقلة ، ووفق قوانين تؤكد على حرية الرأي والتعبير وحق الإختلاف ، وبضوابط قانونية تجعل من الصحافة وتمكنها من أن تكون سلطة رابعة حقيقية ، تكشف الخلل والعيوب والفساد ، وتعرّي الإنتهازيين وسارقي أموال الشعب ، وتدفع باتجاه شفافية حقيقية ، وأيضا خطط تنمية حقيقية وشاملة وجادة قصيرة وطويلة الأمد ، كما وتعمل على تصويب كل الأخطاء والتجاوزات ، لتصبح وتشكل رأيا عاما ضاغطا ومؤثرا بيد الجماهير . 3- أخيرا – والأهم بالتأكيد – العمل سريعا على إنجاز مشروع الميثاق الوطني ، يكفل حق مواطنة حقيقية ، ويحدد حقوق وواجبات الأفراد وسيادة القانون ، ليطرح على الناس من أجل مناقشته بجديّة وعمق وتروّي وبحرية تامة ، دون أي تدخل أو ضغط أو تأثير من ايّة جهة كانت . أخيرا تحية لأخواننا المحامين ولكل الوطنيين الشرفاء والصادقين الذين يسعون لخير هذا الوطن وهذا الشعب . 26/09/2008