د. خالد الطراولي [email protected] مقولة حيّرت العديد من حكامنا وجعلتهم يستنفرون كل قواهم العقلية والبدنية من سهر وحمى: الديمقراطية حق مشاع، يتنعم به الصغير والكبير على السواء، ساكن الكوخ والنائم في القصر، من يمشي على اثنين أو أربع أو من يزحف! كيف لابن البادية والرعاع والسوقة والملأ العام أن ينشدوا الديمقراطية أو حتى يتحدثونها وهي الصعبة ذكرا وتنزيلا؟ كيف لهم أن يعيشوها حتى في أحلامهم وهي الممنوعة عن الصرف وعن التمثل خارج ديارها وبين أبناء جلدتها؟ القناعة كنز لا يفنى، حتى في السياسة، فالرضا بالقليل والعمل بالتأويل ومد الرجل على قدر الكساء وإلا نالتها العصا، خير من الارتماء في المجهول والتعويل على السراب... ظلت الديمقراطية اسما شبه مجهول أو متروكا جانبا عند أجدادنا، كان الاستقلال والتحرر من براثن الاستعمار العسكري أولوية الأولويات، كان حمل مفاتيح الدار من قبل ابن الدار كفيل عند أجدادنا بجهل الديمقراطية أو التغاضي عنها، والثقة العمياء في الحفيد..، ثم حملها آبائنا من جيل الاستقلال، وبدأ الإحساس بالخيانة، وظهرت أول المطالب بالإصلاح والديمقراطية ولو باستحياء أحيانا، وكانت العصا بالمرصاد.. ثم كنا نحن..، التحقنا بالركب والقطار يسرع متوغلا في الأدغال والمستنقعات، فنادينا بالاستقلال الثاني، فكان المصير أسود، شُرّد بالبعض وحُبس البعض وغاب البعض الآخر من فوق الأرض وأصبح له عنوانا في السماء! كان جواب الاستبداد في أكثر من موطن وحال، عربدة واستخفاف، ولكنه كان يعتمد أيضا على منظري الافتراء والتملق، وعلى حلق الذكر والحمد والاستجداء التي أنتجت مقولات ومقاربات، حاول الاستبداد من خلالها تثبيت مصداقية له بين الناس ولو على عكازين، والسعي لتبرير وجوده وتكريس فعله وإيجاد شرعية دائمة لبقائه، واستبعاد كل نفس أو فكر مغاير لمصالحه، ومواجها لاستفراده بالسلطة وتربعه على العرش. ومن بين هذه المقولات الخرقاء، انبرى طرح صعد نجمه ولمعت أطرافه، يتمثل في أن لنا طريقا خاصة في الديمقراطية، طريق ليس عاديا ولا يشبه الآخرين، فلكلّ ثناياه وشعابه! هذا ما أطلقه حكامنا يوما، وهم ينادون بخصائصنا من هوية وثقافة وعقلية وعرف وتقاليد وعادات، تذكروا أننا قاصرين أو غير راشدين، نعيش مراهقة دائمة، فرحموا ضعفنا ورأفوا بحالنا ونادوا بها على مراحل، علينا بالخبز أولا إن توفّر، وسمح صاحب الشأن ونالتنا مكرمته، ثم لنحكي يعد ذلك طويلا مع بعض قصة الديمقراطية ونتسامر حولها، الديمقراطية المخبرة والديمقراطية المرحلية، والمتدرجة والمتفهمة والخطوة خطوة والآخذة بالأسباب... ثم رُفِعَ محاذيا لها شعار ميت فضفاض مغشوش وحزين "استهلك واصمت" حيث أصبح شعب كامل همه بطنه وما سواها باطل. طريقنا نحو الديمقراطية كما يريده لنا حكامنا يجب أن يكون ساكنا هادئا يتحرك في مكانه في حلقة مفرغة ليس لها بداية، وإن نالتنا المكرمة الأميرية وظهرت إرهاصات بداياتها، فليس لها نهاية... الطريق العادي للديمقراطية مليء بالأشواك، ونحن حفاة عراة، فعلينا البحث عن طريق أكثر سلامة حتى لا نصاب بالوخز والجراح! علينا أن نبحث عن طريق أكثر التواء وتعقيدا، أكثر ابتعادا وبطأ، فالطريق المباشر مجلبة للتسرع والعجلة والسقوط، لأنه طريق الآلام والأوجاع ولا يقدر عليه أحد! والغريب أن هذه الدعوة لقت رواجا خارج حدودنا، حين التقت المصالح وتشابكت المنافع ووضعت المبادئ والقيم في قمقم وألقي بها في أعماق البحار... فالرئيس الفرنسي الأسبق ظل ينادي بأنه يتفهم خصوصيات الشعوب وتهيئتها للديمقراطية، ثم أسقط رئيس أمريكا مشروع الشرق الأوسط رغم علاته، وابتعدت معه الديمقراطية وسكن صداع الرأس حولها، إذ يبدو أننا غير مؤهلين لها، فالأولوية للأمن و الاستقرار ولو جاء على ظهر دبابة، أو اصطحب معه طائفية وحروب أهلية ودكتاتور على الباب يحمل عمامة أو قبعة! طريقنا الخاص نحو الديمقراطية يمر بمراحل عصيبة وميزات صعبة لا يقوى عليها إلا من أوتي حكمة داوود وقوة طالوت، ويعتمد على شروط حاسمة كتبها أصحابها في ألواح محفوظة لا تطالها أيدي الناس فيشوهونها : أولها، القبول بما كان، والاعتبار بأن ما سيكون لن يكون أحسن مما كان، وعصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة! ثانيها، الاعتراف بأن جينات الحكم والسلطة متمكنة عند البعض دون البعض، وأنها تورث كما يورث المتاع! ثالثها، الاقتناع والترويج بأن حكما "غشوم" خير من فتنة تدوم، فعلينا بالانتظار حتى تينع الثمرة ويحين قطافها، ثمرة السكون والتقوقع التي تولد شعبا خانعا ساكنا يتلهف للفتة رضا من صاحب الشأن وفتات خبز مرمي على قارعة الطريق! رابعها، أن مصطلحات الكرامة والمواطنة وحقوق الإنسان ليس لها قاموس يحملها غير قواميس السواد والدهاليز المظلمة وحكايات ما بعد منتصف الليل... وفي انتظار توفّر هذه الشروط أو لعلها توفرت منذ زمان ونحن عنها غافلون، ليلتكم سعيدة وتصبحون على ديمقراطية!!! القدس العربي 10 جانفي 2008