إدريس الشامخ فاجأت تركيا محيطها الإقليمي والدولي بمواقفها الشجاعة والمشرفة خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة نهاية العام المنصرم، إذ انحازت بالكامل، وبدون مواربة للحق الفلسطيني، وأدانت وبأقوى العبارات جرائم كيان الإحتلال، واتهمته بممارسة إرهاب الدولة ضد شعب أعزل، وقد شكلت ثورة أردوغان الشهيرة في منتدى دافوس ذروة الموقف التركي، حيث ذكرت العالم بأسره بالمسؤولية التاريخية والأخلاقية التي يستشعرها الأتراك تجاه الشعب الفلسطيني. كل هذا، في مقابل سكوت مريب لمعظم الأنظمة العربية، فسره البعض على أنه تواطؤ مكشوف مع العدوان، وتشجيع لإسرائيل للمضي قدما لإنهاء حالة حماس، والتخلص من العبئ الذي أوجدته منذ فوزها في انتخابات يناير 2006، وكانت الجارة مصر هي عنوان هذا الإتهام والتخوين، بسبب إعلان ليفني الحرب على غزة من القاهرة، وإصرار مصر على إبقاء معبر رفح مغلقا أمام الفلسطينيين طيلة أيام العدوان، في مقابل تسهيل مرور الدعم اللوجستي من على أراضيها للجيش الإسرائيلي، ولم تتحرك الدبلوماسية المصرية إلا بعد توسع الإحتجاجات والمظاهرات ضد الموقف المصري المخزي على الصعيدين العربي والإسلامي، في محاولة منها لاحتواء الغضب الجماهيري العارم، وتقدمت بمبادرة غير متوازنة لوقف الحرب. حينها تدخلت تركيا، التي باتت تحظى بدعم عارم وسط الجماهير العربية والإسلامية، وقادت مجهودات إقليمية ودولية، تمخضت عنها مبادرة تركية متوازنة لإنهاء العدوان على القطاع بشكل مشرف للمقاومة. لقد عدنا إلى التذكير بهذه التفاصيل، لأنها حقيقة شكلت نقطة البدأ في تحول الموقف التركي برمته، ولأن آثارها لاتزال مخيمة على العلاقات التركية الإسرائيلية إلى اليوم، وما إلغاء تركيا لمناوراتها العسكرية المشتركة مع الجيش الإسرائيلي \" نسر الأناضول\" قبل أيام قليلة، إلا دليل قاطع على استمرار تأثر علاقة البلدين بالحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، بما ينبئ بقرب قيام تحالفات استراتيجية جديدة في المنطقة، قد تحدث خلخلة في المسلمات القائمة في المنطقة، وتمهد الطريق أمام شرق أوسط جديد تكون تركيا هي رأس حربته الفعلية وليست \" إسرائيل\" كما تحاول أمريكا وأوروبا تكريس ذلك. هناك من المحللين من رد تحول الموقف التركي من الحليف الإستراتيجي \" إسرائيل\" إلى صحوة ضمير المسؤولين الأتراك الذين ينحدر أغلبهم من حزب العدالة والتنمية الإسلامي، وحنينهم إلى دولة الخلافة الإسلامية العثمانية على عهد السلطان عبد الحميد الذي رفض كل إغراءات وتهديدات الصهاينة في مقابل التنازل عن شبر واحد من فلسطين، حتى هناك من بات يصف صناع القرار التركي الحاليين\" بالعثمانيين الجدد\"، في حين ذهب محللون آخرون إلى ربط هذا التحول بتلكؤ الإتحاد الأوروبي في ضم تركيا لعضويته، واعتبروا \" الصخب التركي\" ليا لذراع أوروبا، وتحذيرا لها من عواقب التماطل في ضم أنقرة إلى مجموعة الخمسة والعشرين، وأن البديل الذي سيكون أمام تركيا هو المزيد من الإرتماء في أحضان العالم العربي والإسلامي، ألم يقل بابا الفاتيكان بنديك السادس عشر إن تركيا بلد إسلامي، وينبغي لها أن تعيش داخل وسطها، في إشارة ضمنية ، إلى رفض الفاتيكان أي ذوبان لبلد إسلامي كبير مثل تركيا داخل بلدان أوربية مسيحية، فهاهي إذن تركيا تمارس واجبها كدولة إسلامية في التضامن والمناصرة مع شعب مسلم يرزح تحت أبشع احتلال في التاريخ. ربما تكون تركيا فعلا قد داقت درعا بمماطلة الأوربيين في ضمها إلى صفوفهم، وأرادت تغيير قواعد اللعبة، والإنتقال من مستوى الرجاء، والتجاوب مع المطالب الأوربية التي لاتنتهي ( المزيد من الديمقراطية، تكريس حقوق الإنسان، إصلاح المنظومة التعليمية وإخفاء كل مظاهر التدين منها، الإعتراف بالجرائم المقترفة ضد الأرمن....) ، إلى مستوى الضغط، والتلويح ببعض الأوراق والمواقف هنا وهناك، وهذا أمر مفهوم في معمعة السياسة الدولية القائمة على تبادل المصالح والضغوطات. وما يعزز هذا الإتجاه، هو الخطوات الأخيرة التي كثفتها تركيا على الصعيد الإقليمي والدولي: فإقليميا صارت تركيا أكثر قربا من إيران، من أي وقت مضى، حتى أن أردوغان أقر في كلمته أمام الإجتماع الأخير للجمعية العامة بأحقية إيران في امتلاك السلاح النووي، مادامت إسرائيل تمتلكه، وهو موقف لم تجرأ على التلفظ به أي دولة عربية أو إسلامية أخرى، وفي الأيام القليلة الماضية، وقعت تركيا وسوريا اتفاقا استراتيجيا للتعاون الإقتصادي والسياسي والعسكري ، كلل برفع تأشيرة الدخول بين البلدين، وبالإتفاق على القيام بمناورات عسكرية مشتركة في القريب المنظور، ولنا أن نتخيل حجم تأثير مثل هذه المناورات على إسرائيل التي لازال جرح إقصائها من مناورات نسر الأناضول ينزف، ومع العراق تم التوقيع على اتفاقية اقتصادية هامة بحضور طيب رجب أردوغان، تسمح بموجبها تركيا بمرور أنابيب الغاز العراقي إلى أوربا عبر أراضيها، وهو ما سيكسب أنقرة ورقة قوة جديدة، يمكن أن تستخدمها ضد الأوربيين عند الحاجة، كما فعلت اوكرانيا في شتاء 2009 عندما أقفلت صنابيب الغاز الروسي المتوجه إلى أوربا للحصول على امتيازات خاصة. هذا التحالف الثلاثي التركي الإيراني السوري الذي بدأ في التبلور، سيساهم لامحالة في تغيير الكثير من الترتيبات القائمة في المنطقة، وسيكون له انعكاس مباشر على سياسة الدول الكبرى تجاه قضايا منطقة الشرق الأوسط، كالموقف من الملف النووي الإيراني، ومن الصراع العربي الإسرائيلي، ومن قوى الممانعة في فلسطين ولبنان. أما دوليا، فقد سارعت تركيا إلى التوقيع على اتفاقية لتطبيع العلاقة مع جارتها أرمينيا وإنهاء عقد من العداوة بينهما بسبب مخلفات الحرب العالمية الأولى، لتسحب بذلك أهم ورقة ضغط بيد الأوربيين والإسرائيليين على حد سواء، فكلنا نعلم كم من مرة هددت إسرائيل تركيا بتحريك لوبياتها في أوربا وامريكا لتأليب الرأي العام الغربي ضدها بخصوص جرائمها المزعومة ضد الأرمن، كما أن أوربا ما فتئت تعزو تماطلها في ضم تركيا إليها إلى عدم اعتراف الأخيرة ب\"المجازر\" المرتكبة ضد الأرمن. إن موقف تركيا اليوم يؤهلها لتكون القوة الإقليمية الرئيسة في المنطقة، وللعب أدوار حيوية في كل الملفات المطروحة، رغم أنف إسرائيل ولوبياتها، وطبعا لن يكون هذا المد التركي إلا على حساب الدور العربي الخافت، وخاصة على حساب دور مصر التاريخي، إذ لم تعد الدول الكبرى تقيم وزنا لأي من الدول العربية، بقدر ما أصبحت تخطب ود تركيا وتتمنى عليها التدخل لدى هذا الطرف أو ذاك