م يكن لأحد أن يتصور بان شعب تونس, هذا الشعب الصغير الذي عاش منذ الاستعمار وحكم البايات إلى حد الساعات الأخيرة من حكم بن علي تحت القهر والقمع والتعذيب إلى أن صار في وجدان كل مواطن بوليسا واقفا يحدد له خياراته وما يجب أن يقوله أو أن يفعله. وقس على ذلك أغلب الشعوب العربية التي عاشت الاستعباد بكل معانيه. والجبن كان هو المنتج الإنساني الذي أراد أن تصنعه الأنظمة القائمة لاستمرارها وبقاءها جاثمة على الصدور. ولم تكن ملامح الجبن قائمة فقط على المستوى الفردي, وإنما شملت أغلب المؤسسات المدنية والأحزاب, التي راهنت على ولاءها للأنظمة القمعية بالولاء الكامل, لتتحول إلى مؤسسات انتهازية تنتعش بقدر انحيازها للنظام دون مراعاة دورها الحقيقي ضمن الجماهير. فدخلت هذه المؤسسات والأحزاب البرلمانات, وتحصلت على السيارات والفيلات الفاخرة والرحلات إلى أغلب دول العالم, كما تمكن ذويهم وأفراد عائلاتهم من الحصول على العمل وفي مراكز لا تتوافق ومستوياتهم العقلية والعلمية. وهو مازاد في تدجين المجتمع وتعطيل الحراك السياسي والثقافي. وفي تونس, كان النظام القائم يعلم علما جيدا بان المحافظات الوسطى ببلاده, وباعتراف دولة الاستعمار الفرنسي والرئيس الأسبق بورقيبة, تقطنها "قبائل مشاغبون جدا" لذلك عمل على سلبه هويته وتجويعه وبث الرعب في أبناءه فرادى وجماعات, كما أسس بأياد حزب التجمع منظومة أمنية محكمة للتجسس على العائلات لضرب كل فكرة أو عقيدة مناهضة قد تظهر هنا أو هناك. ولكن نسي هذا النظام القمعي بان قبائل هذه المحافظات الوسطى قد تتحول في أي وقت في بركان هادر يأتي على كل شئ وعلى كل أهانه على مدى سنوات. وبالفعل ابتدأت الثورة الشعبية العارمة خاصة من محافظة القصرين متخطية كل حواجز الخوف, فسقط الشهداء وفاقت أعدادهم أكثر من خمسين شهيدا وفاق عدد المصابين المائة, ولم يردعهم لا صوت الرصاص و لا الأجساد المنتشرة في كل طريق, ليطردوا من المحافظة كل رجال الأمن وكل من أذلوهم وبقت المحافظة تحت حمايتهم تحت إشراف لجان شعبية. كسرت هذه المحافظات حاجز الخوف لتلتحم بهم وبعد ثلاثة أيام من التردد كل المحافظات الأخرى بدون استثناء, ليسقطوا بذلك أكبر دكتاتور قمعي في 14 يناير. ولكن أخراج الثورة كان إخراجا سيئا, نظرا لضعف الوعي السياسي ولانتهازية بعض السياسيين وكذلك لتردد الإتحاد العام التونسي للشغل نظرا لأن بعض من قيادته النافذة كانت من أزلام بن علي المخلوع, فكان الإخراج استمرارا للنظام السابق ولكن مع تغيير بعض الوجوه, وبقت نفس النظرة إلى الشعب بان العدو الحقيقي للحكومة, وقد سقطت الحكومة في أول اختبار لها عندما هاجمت المعتصمين أمام قصر الحكومة بالقصبة واعتدت عليهم اعتداء غاشما بالضرب والقنابل المسيلة للدموع كما تم إطلاق الرصاص الحي عليهم, وهناك أخبار عن أربع وفيات, وأختطف ستة منهم وهم مفقودون إلى حد كتابة هذه الكلمات, وتم تقديم اثنان وعشرون منهم إلى المحاكمة. في المحصلة لم تنتج الثورة التونسية إلى حد الآن شيئا سوى كسر جدار الخوف لدى الإنسان العربي المقموع ليس في تونس فقط ولكن في كل العالم العربي. وقد تجرأ الشعب المصري, بعد انكسار جدار الخوف الذي حققه التونسيون, إلى أخذ الأمور بزمامه وأشعل ثورة أخرى, لأن الأنظمة القمعية تتشابه في تركيبتها فان الأحداث تكاد تكون نفسها في تونس, بالرغم من إن مصر ليست كتونس في وضعها الجيوسياسي, فمصر أهم وأعظم للعالم لأن نظامها كان يحمي الصهيونية ويتواطأ على دول عربية أخرى, لذلك ستكون التدخلات الخارجية أعظم وقعا وأكثر تأثيرا. ولو نجحت الثورة في مصر, وأعاد الشعب سلطته المغتصبة فستتهاوى بعدها كل الأنظمة العربية لصالح الشعب والحرية والديمقراطية, ولو فشلت فلن يستعيد العرب سلطتهم وستبقى الأنظمة قائمة مع محاولات منها للتنفيس في مجال الحريات, إلى حين تجميع الأنفاس والتنظيم في الحقل المدني وتنتزع الحرية انتزاعا لا منّة ورغبة في بقاء أنظمة قمعية بوجوه أخرى.