اللحظة الأولى: كانت في ربيع 2002 عندما كنت عائدا من العمل ليلا في حي الإسكان في بن عروس باتجاه مدينة مقرين حيث أسكن، و فجأة أثناء وقوفنا أمام المحطة ننتظر الحافلة، طلعت علينا وجوه لا يرى عليها أثر الخير ولا يرغب في رؤيتها احد. وبعد أن حاصرونا أقحمونا في سيارة الشرطة ثم اقتادونا إلى مركز الأمن ليتثبتوا من ألهويات ويتيقنوا من خلونا من السوابق، في هذا الجو من الهرج وتعالي الأصوات وبعد طول انتظار ناداني أحد الأعوان وقال لي: لماذا أنت ممنوع من السفر، قلت له لا أدري ولكن ّ الذي أعرفه أني قدمت طلبا في استخراج جواز السفر منذ مدة. حينها نظر لي نظرة...ثم ناولني بطاقة التعريف فخرجت مسرعا إلى المحطة لأجد أنّ أخر حافلة قد مرت، فكان علي إما الانتظار حتى الخامسة صباحا لأستقل الحافلة أو العودة إلى البيت مشيا على الأقدام. طبعا خيرت العودة راجلا بالرغم من تعب الشغل وكنت طيلة الطريق أدعو الله وأبكي أولا من ذلك القهر والحيف وثانيا لأنّ حلم الجواز الذي دفعته منذ سبعة أشهر قد تلاشى و ثالثا حتى وان قدر لي التمتع بجواز السفر فلن أستطيع استعماله ببساطة لأنني بحكم قانون هؤلاء الظالمين من المدرجين على قائمة الممنوعين من السفر. من الغد ذهبت إلى جامع الزيتونة المعمور عصرا، وهي عادة دأبت عليها في يوم الإجازة الأسبوعي، وبعد أداء الصلاة خرجت صحبة صديقي فريد ابن رمضان وعند مرورنا بساحة القصبة توقفنا قليلا لأقص عليه ما جرى لي الليلة الماضية، وفي لحظة من الإحساس بالقهر ولكن بقدر عال من الثقة في الله قلت لصديقي: هل تعلم انّه رغم الذي حدث فاني مطمئنّ أنّ الله إن كان كتب لي الحصول على الجواز فسأحصل عليه وسأسافر به رغم أنف هؤلاء. وفعلا لم يتأخر الوعد الحق، ففي نفس اليوم ما إن دخلت البيت حتى أعلمتني زوجتي أنّها تلقت رسالة من وزارة الداخلية فيها أنّ " البس بور " جاهز وبامكاني تسلمه من مركز بن عروس. في اليوم الموالي، وسط شعور مختلط من الحلم و اليقظة (فقد ظللت طيلة ست سنوات بين 1992 و 1997 دون أيّ وثيقة أو هوية ) ذهبت إلى مقر الشرطة وتسلمت الجواز. وما هي إلا أيام معدودة حتى سافرت إلى جزيرة مالطا، ليس للفسحة و لا حتى للعمل ولكن فقط لأتأكد من صلاحية الجواز و إمكانية العبور دون إيقاف. مكثت هناك ثلاثة ليال ثم عدت إلى تونس لأرتّب لرحلة جديدة ما خططت لها من قبل أن تكون مفتوحة في الزمن ولكنّها الأقدار شاءت ذلك، إلى أن بزغ فجر ثورة الشباب المباركة، وهنا تأتي اللحظة الموالية. اللحظة الثانية: هي أيضا لحظة «البس بور" الذي رفع أقواما ووضع آخرين. وقد كان ذلك في الأيام الموالية للثورة، حيث قصدت القنصلية في باريس ولما وصلت، وجدت جمهورا من المواطنين فيهم عدد غير قليل من اللاجئين السياسيين ينتظرون أمام الأبواب المغّلقة، وكان الأخ الهادي يستحث الجماهير على الدخول وأخذ حقوقهم و لكن للأسف لم يلق استجابة من أحد. في هذه الأثناء كان الأمن الفرنسي يدعو الجماهير إلى المغادرة ولكنّهم ظلوا مصّرين على البقاء رافعين الشعارات المنّددة بسلوكيات الحقبة البائسة أحيانا و مرددين النشيد الوطني أخرى. لم أستسغ ذلك المشهد وقرّرت ألا أعود إلى البيت إلا ومعي جواز السفر، فقد تربصت حتى دخول أحد العاملين في القنصلية ودخلت على إثره، حاولوا منعي وإخراجي بالقوة لكنهم لم يفلحوا وتنادوا من مكاتبهم عملة ومسئولين تقدمهم رئيسهم الذي حاول تهدئتي وإقناعي باستحالة النظر في الموضوع في ذلك اليوم.وأمام إصراري أخذ وصل الجواز ( وقد كنت تقدمت به منذ شهر ونصف في اطاربرنامج تحركات المنظمة الدولية للمهجرين ) ثم عاد للتو ليعلمني أنه ليس جاهزا وطلب مني العودة في اليوم الموالي. قلت لن أتحرك من مكاني إلا والبس بور في يدي. قال أرجو أن تفهمني هناك مشكل فني، اذهب الآن واحتسي كأسا من القهوة ثم عد مع الساعة الواحدة لتتسلم جوازك.قلت كلا. قال يا سيدي اخرج حتى تراك الجماهير أمام القنصلية ثم عد الساعة الثانية. قلت لن أبرح حتى أقضي ما جئت من أجله. قال لو أعطيناك الآن سيفتح علينا باب جهنم ولن نقدر على إقفاله. قلت ليست مشكلتي.قال حاول أن تتفهمنا، إن تونس قد تغيرت، ألا تثق فينا. قلت لا أثق فيكم. قال هكذا إذن ،تفضل واجلس في الصالة حتى نرى الأمر. دخلت قاعة الانتظار، فإذا الموظفين منهم من يستمع إلى الراديو ومنهم من يتحدث إلى زميله وكلهم إما باهت وإما حزين لا يجد ما يفعل. وبعد مضي ساعتين تقريبا على اعتصامي داخل مبنى القنصلية، دخل عونان من الأمن الفرنسي ليتأكدوا من سلامتي، وقد كانوا أرسلوا من قبل الجماهير الغاضبة في الخارج. أوضحت لهم أني بخير وسأظل أنتظر هنا حتى أستلم الجواز. وقبل أن يغادروا سألوني إن كنت قد تعرضت لسوء أو حاول أحد منعي من الخروج. عاد المسئول ثانية وطلب مني هذه المرة أخرج إلى الجماهير وأهدئهم. قلت حسنا سأفعل إن خرجت ومعي الجواز. قال الجواز يتطلب بعض الوقت. قلت سأنتظر حتى منتصف الليل. طيّبا انتظر. وبعد قليل عاد مسئول أخر ليقنعني بأن الحصول على الجواز في ذلك اليوم غير ممكن. قلت فلماذا إذن يتعهد الذي سبقك بعكس الذي تقول. قال نحن في مشكل حقيقي ونرجو وأن تتفهمنا، ثم ذهب إلى مكتبه. وما هي إلا دقائق حتى طلع أحدهم ثم وقف غير بعيد، قائلا: لا أحد هذا اليوم يمكنه أن يتسلم جوازا، الكل سواء. نهضت من مكاني واتجهت إليه: من أنت أيها السفيه، ألم تصح من هذه الغيبوبة، أتشك أنّ الثورة لم تقم بعد، ألا تدري أن رؤساءك في الداخل بصدد تحضير الجواز. تعالت الأصوات، فخرج الجميع من مكاتبهم مذعورين وقاموا بإدخاله إلى مكتبه. ثم توجهوا نحوي وقالوا: يا أخي نحن وعدناك فلا تقلق. جلست وكان أحدهم يتردد علي ويطلب مني إن كنت أريد شيئا من المشروبات أو غيره، ثم جلس بجانبي وجعل يسترسل في الحديث عن مظالم النظام السابق والمهانة التي تعرض لها هو نفسه. وقد ظل الحال كذالك حتى الساعة الواحدة ظهرا، محاولين بين الفينة والأخرى ثني عن الانتظار، لكنهم لم يفلحوا. ولما تأكدوا من مغادرة الجماهير تنفسوا الصعداء و سلموني"البس بور" دون أن أمضي في دفتر الاستلام، قائلين أنّ تونس قد تغيرت وهي لجميع أبنائها. هذا هو الجواز – الوثيقة – التي استعملها النظام المندحر لإذلال معارضيه و حرمانهم من أبسط حقوقهم المدنية والطبيعية. أفلا تستحي الأنظمة العربية حين ترى مواطنيها يحصلون على بطاقات الهوية وجوازات السفر في الدول الأوربية في آجال قياسية. نأمل أن تستوعب الحكومة التونسية الوارثة الدّرس، وان كانت البدايات لا تبدو مبشرة.