في سابقة يكاد لم يشهدها تونس من قبل، وجدت مختلف التيارات السياسية وفي مقدمتها الإسلامية المتمثلة في حركة النهضة "المحظورة" فرصتها للترشح والتصويت بكل حرية في انتخابات برلمانية تعددية. هذه الفرصة الانتخابية التي علتها سمة النزاهة والحيادية، وشارك فيها الكثيرون من أبناء تونس، لم تجر على أرض الواقع، ولكن على صفحات موقع "فيس بوك" الإلكتروني الشهير. كما لم تنظمها السلطات، ولكن نظمها مواطنون في محاولة لتحقيق حلم "برلمان افتراضي" خال من التجاوزات التي تشوب غالبية الانتخابات في العالم العربي. وبالفعل جذبت الفرصة مئات التونسيين الذين قاموا بالتصويت على شبكة الإنترنت لاختيار أعضاء البرلمان الذي يتكون من 25 عضوا من بين عشرات من المرشحين يمثلون توجهات فكرية وسياسية مختلفة، ولم تعلن نتائج التصويت بعد. ولتسهيل عملية فرز الأصوات خصص القائمون على تنظيم الانتخابات صفحة على موقع الحملة ب"فيس بوك" في أعلاها أسماء المرشحين ويقوم الناخبون بتسجيل أسمائهم في نفس الصفحة وتحديد الأسماء التي صوتوا لها. وخلال الحملة الانتخابية التي استمرت نحو أسبوعين, دارت نقاشات تعلقت بدور الدين في المجتمع، وبالعلمانية، والاعتراف المتبادل بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية، وبأخلاق الحوار والتعايش بين المختلفين. وكان حضور الإسلاميين المحرومين من المشاركة في الانتخابات الحقيقية في المشهد التونسي لافتا في البرلمان الافتراضي ترشحا وتصويتا، كما لم تغب التوجهات العلمانية عن المشهد هي الأخرى, بينما سجلت المرأة حضورا بارزا. وقاطعت حركة النهضة الإسلامية (محظورة) أبرز القوى الإسلامية بتونس، وعدد من أحزاب المعارضة الانتخابات التونسية الواقعية التي جرت أكتوبر المنصرم. فن التعامل وفي تعليقه على هذه التجربة الانتخابية قال قيس الزنايدي صاحب فكرة إنشاء البرلمان الافتراضي: "هو مجلس نواب الشعب الفيسبوكي التونسي.. منتخب من الشعب الفيسبوكي فقط.. برلمان يتنفس ديمقراطية.. ويسير بالانتخاب الحر المباشر ولا تمييز فيه بين تيار وآخر". وأوضح أن "الغرض كان إيجاد آلية لتعليم الفيسبوكيين فن التعامل مع الرأي المخالف دون تعصب ولا تحريض ولا إقصاء". وأضاف أنه "بمجرد الإعلان عن إنشاء البرلمان تواردت علينا الأفكار الطموحة التي تحوله من مجرد حلم إلى مشروع ضخم"، بحسب وكالة أنباء "قدس برس". وعن مرحلة ما بعد الانتخابات قال الزنايدي الذي لم يترشح لعضوية هذا البرلمان، إنه سيتم انتخاب رئيس المجلس، ثم يعمد البرلمان لسن تشريع ينظم جوانب مثل التسيير والتأديب وتكوين اللجان. كما سينظر في آلية لمراقبة الشعب "الفيسبوكي" للمجلس المنتخب، حسب تعبيره. وأعرب المتحدث عن أمله في أن يساهم هذا البرلمان في "خدمة البلاد عبر المشاركة في تربية رأي عام واع". وختم الزنايدي حديثه بالتعبير عن سعادته بالتجربة قائلا: "بشرى للجميع.. تجربتنا لاقت صدى في وسائل الإعلام العربية، وهو ما يمثل دعما للجميع... شكرا لمن ساهم في تطوير هذا الحلم من بعيد أو من قريب". جلسات فعلية ولاقت التجربة تجاوبا وقبولا واسعا في أوساط التونسيين لدرجة أن أحد المرشحين في هذه الانتخابات أعلن على صفحة الحملة أنه سيستقيل من البرلمان الافتراضي مباشرة بعد فوزه بعضويته "حتى يعلم المسئولون العرب الزهد في الكراسي، وعدم التمسك بها حتى الموت، وتوريثها لأولادهم وأحفادهم". كما اقترح الناخب "جنيدي طاليب" أن "تكون أول جلسات البرلمان فعلية وليست فيسبوكية، فإن تعذر على البعض الحضور في تونس ولم نبلغ النصاب، يمكننا أن نلتقي في الدوحة أو لندن، أو سان فرانسيسكو، أو أي مكان آخر تختارونه". أما الناخب "أبو آلاء" فقال: "لقد صوت اليوم بكل حرية ودون رقابة وبلا خوف لا من العمدة ولا رئيس مكتب الاقتراع.. شكرا لكم لإتاحتكم الفرصة لكي أمارس الانتخاب يوما في حياتي". اهتمام عربي ولم يقتصر الاهتمام بالتجربة على التونسيين فقط، فقد جلب البرلمان الافتراضي دعم واهتمام شخصيات سياسية وثقافية وفنية عربية. وفي هذا السياق قال ناصر قنديل البرلماني اللبناني السابق في رسالة على الصفحة الرئيسية للبرلمان الافتراضي على موقع "فيس بوك" "ليس حبي لتونس الخضراء ما يجمعني بكم، ولا تلك العلاقة الجميلة بين مدينتي صور ومدينتكم قرطاج، بل هي فكرتكم التي تشغلني منذ زمن، برلمان افتراضي عربي". ورأى قنديل أن الفكرة يمكن أن تشكل ملتقى يضم النخب العربية المختلفة، ويكون منبرا "للنقاش والحوار والتفكير بصوت مرتفع، وآلية لمؤسسة عربية للرأي العام". وبدأت حملة انتخابات "البرلمان الافتراضي" بالتزامن مع الانتخابات التشريعية الحقيقية في نهاية الشهر الماضي بتونس، وسط تشكيك من قوى معارضة في نزاهتها. وجرت الانتخابات التشريعية في 25 من أكتوبر الماضي بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية التي أسفرت عن فوز التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم برئاسة الرئيس زين العابدين بن علي بالأغلبية المطلقة ب161 مقعدا من مجموع المقاعد البالغ عددها 214 مقعدا في البرلمان الجديد. وحصلت أحزاب صغيرة متجمعة من المعارضة على المقاعد المتبقية في البرلمان موزعة عليها طبقا لنسبة الأصوات التي أحرزها كل حزب من هذه الأحزاب التي تتقدمها حركة الاشتراكيين الديمقراطيين ب16 مقعدا. وكان الرئيس بن علي قد استولى على السلطة بعد انقلابه على الحبيب بورقيبة عام 1987، والذي كان في وضع صحي متدهور، ومنذ ذلك الوقت، فاز بن علي بأربع دورات رئاسية، ولم تقل نسبة فوزه في الدورات الأربع عن 94% من أصوات الناخبين، وفق النتائج الرسمية المعلنة...