كان يمكنني الاكتفاء بما كتب الأخ المُصابر العربي القاسمي، عن الأخ الكريم مجاهد الذيبي الذي دعاه الله سبحانه وتعالى على رأس شهر ذي الحجّة 1430 فلبّى الدعوة راضيا سائلا ربّه الرّضا، غير أنّي أردت إضافة بعض ما قد خفي عن العربي وعن النّاس من سيرة هذا الرّجل الرّاحل، وذلك من خلال النّافذة التي فتحت لي عليه أيّام كنّا بأرض السودان... فقد كان الأخ مجاهد (محمد الصالح) رحمه الله ممّن لم يُعامَلوا معاملة مفتوحة بالسودان نظرا لقلّة أو انعدام النّاس الذين يعرفونه.. وأحسب – بعد أن عرفناه في سويسرا وقت السعة – أنّ ما لاقاه في السودان من "ضيق" لم يكن من الشرّ بل هو من الخير المطلق الذي كتبه الله له.. فقد دعاه "انقباض" النّاس إلى "الفرار" منهم إلى الله سبحانه وتعالى حيث لجأ إلى الخلوة أين حفظ القرآن الكريم، فعمّر صدره بما يصبّره عنّا وعن تحفّظاتنا وتخوّفاتنا "الواقعية".. لم يُرَ محمّد الصالح هناك إلاّ ضاحكا مستبشرا رغم بعده عن الأهل وحرمانه من الولد والزوج.. ولم يُرَ رحمه الله وأحسن مثواه إلاّ مقتنعا بما كتبه الله له قنوعا بما ساقه إليه من رزق...
بقي محمّد الصالح مستورا لا يُعرف من أمره الكثير حتّى خرج من السودان بمعية مَن خرج من الإخوة وكانت وجهته سويسرا، فبلغنا عنه – ونحن لا نزال يومئذ هناك - الخبر الحسن الذي يحكي مواقفه المسلمة الطيّبة، مواقف الرّجال، والتي زادت من ثقل ذاك "التوجّس" أو ذلك "التحوّط" علينا... فإنّ المعروفين وقد تنفّسوا هواء العتق من الضيق السوداني قد قالوا في بعض إخوانهم الذين لا يزالون محصَرين ما قالوا!.. اتّهموهم عياذا بالله بالجور والاعتداء والتعدّي على حقوقهم.. كما اتّهموهم بأكل أموال النّاس بالباطل أو بأكل ما لم يأكل غيرهم، وصرّحوا بلا ضابط ولا رقيب أنّ فلانا وعلاّنا - مثلا - كان يتقاضيان راتبا بالعملة الصعبة في كذب صارخ محبط موغر للصدور عياذا بالله تعالى.. غير أنّ الأبيّ الشهم ذا المروءة محمد الصالح رحمه الله وأحسن مثواه قد وقف مدافعا بقوّة عن إخوانه يبرّئهم من كلّ ما حاول "المدلّلون" إلصاقه بهم.. وقف مجاهد الذيبي الرّجل الفاهم للواقع ولتصرّفات النفوس والمتفهّم لسقوط البعض والدّافع والمدافع عن حرمات إخوته وإن قصّروا في معرفته يلقّن المسلمين كيف يكون خلق المسلم، ومعنى الدّعاء لأخيهم بظهر الغيب، ومعنى الدفاع عن أخيهم بظهر الغيب!...
لمّا بلغتني هذه الأخبار (ولست متأكّدا من صحّتها)، كبر الرّجل عندي كثيرا رغم أنّه كان كبيرا، وخبرت معدنه الصافي، إذ قد لا يتجلّى صفاءُ المعادن زمن المحنة جلاءَه زمن السعة والرّخاء، وهو المعنى الذي قد يفهم من تنبيه الرّسول صلّى الله عليه وسلّم أمّته حيث قال: "... فالوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكنّي أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على مَن كان مِن قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم".. وليس الخبر وحده هو ما ثمّن الرّجل ولكنّ سيرته بسويسرا وشهادة العربي وإخوانه فيه وله كلّها تؤكّد لنا ذلك.. وعسى الله أن يقبل بشهادتنا فيه، فيجعله كما رأيناه مؤمنا صالحا صادقا عاملا صدوقا ويحشره برحمته مع الصدّيقين والشهداء والصالحين بجوار حبيبنا المصطفى الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام...
أحسب أنّ مجاهدا واحد ممّن نجح في إنزال الدنيا منزلتها الطبيعية عندما أسكنها خارج قلبه... وأحسب أنّه بالمقابل ممّن نجح في فهم الأخوّة في الله والحبّ في الله والبغض في الله عندما فتح قلبه الصالح واسعا رحبا لكلّ من يحبّ فآواهم فيه جميعا بلا استثناء... وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يعتلّ هذا القلب فتضطرب بعض أنشطته العضلية دون أن يؤثّر ذلك مثقال ذرّة في وظيفته الإصلاحية إصلاح الجسد وإصلاح المحيط من حوله حتّى زاره الموت في أجله دون ضجّة.. فجزاه الله عنّا خيرا ورحمه رحمة واسعة وأفرغ على أهله صبرا جميلا وبارك في ذرّيته إلى يوم الدين وجعلهم على طريقه، طريق القرآن والصبر والتواضع والإيثار...
كتب الله لي زيارة واحدة إلى الأخ مجاهد رحمه الله وكان ذلك بمناسبة زواج ابنته حفظها الله وأمّها وإخوانها وزوجها وأبناءهم أجمعين، وقد كانت رؤيته مفاجئة لي إذ قد وجدت – سبحان الله – بونا شاسعا بين محمّد الصالح الكادح المغترب المنقطع عن الأهل ومجاهد الأب الذي يحضن الأسرة والأسرة تحضنه، وقد سررت كثيرا لِمَا رأيتُ وحمدت الله كثيرا له ولنا جميعا على ما رأيت!.. وقد قصّرت في الاتصال به أيّام مرضه غير أنّي أحبّه – والله يعلم منّي ذلك – وأحفظ له مواقفه.. مواقف الرّجولة النّادرة التي سأشهد له بها يوم القيامة إن شاء الله.. وقد زاد الله الأخ مجاهد فضلا عليّ أن ألزم نفسه تبجيلي واحترامي لشيء في نفسه، وأسأل الله أن يغفر لي وقد علم منّي أنّي أستحيي منه ومن تصرّفه ذلك، فأنا والله أعتبر نفسي دونه ودون منزلته السامقة!.. أسأل الله أن يتقبّله قبولا حسنا وأن يجمعنا به في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه وأن يحفظه في أهله وولده ويخلفه فيهم، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون...