أعلن في تركيا مؤخرا أنّ حكومة حزب العدالة والتنمية ستقدم للبرلمان خطة طريق للحل النهائي للمشكلة الكردية، وفي أواخر الشهر الماضي قام أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية التركي، بزيارة إلى إيران وإقليم كردستان العراق، ليتوج ذلك تحولات هامة تجري على السياسة التركية تؤشر بوضوح إلى أنّ تركيا في طريقها للخروج من أسر النظرية الطورانية الشوفونية التي قننها مصطفى كمال أتاتورك، وعندما نقول إنّ أتاتورك قنّن تلك النظرية، فإنّنا نعنى أنّ أسسها كانت موجودة بالفعل في العقل الجمعي التركي قبل أتاتورك. ويلخص الكاتب التركي الشهير "حسين جاهد" في صحيفته عام 1908 فلسفة تلك النظرية بقوله: "إنّ الأمة التركية كانت وستظل هي الأمة الحاكمة في السلطنة، وأنّ الترك يتمتعون بحقوق وامتيازات سامية بصفتهم فاتحين.. ولا مجال إذن للاعتراف بحقوق متساوية للآخرين". هذا على جانب العلاقة مع الأعراق غير التركية والتي تعيش في هذه البقعة الجغرافية (تركيا)، مثل الأكراد والعرب والأرمن والشركس وغيرهم، إذ أنّ تركيا كغيرها من البلدان تتشكل من فسيفساء عرقية. أما على المستوى العام والمتعلق بعلاقة تركيا بالآخر خارج الدولة التركية، فإنّ تلك العلاقة تنطلق من مفهوم يعتبر القومية التركية هي مركز الكون والوجود وأصل الحضارات والثقافات والشعوب... إلخ. وفي هذا السياق تبنت مجموعة من الشعارات مثل (ما أسعد أن تكون تركيا)، ويغرسون في ذهن الطفل التركي منذ نعومة أظفاره مفاهيم تمجد باستمرار اللغة التركية والتاريخ التركي والثقافة التركية مع النظر للآخرين بتعال، وأدى ذلك إلى انعزال تركيا عن الجنوب الإسلامى ومحاولاتها الحثيثة للالتحاق بالشمال والغرب الأوروبي. وكما ذكرنا فإنّ جذور فلسفة الحكم التركية ونظرة الاستعلاء للآخرين كانت موجودة قبل أتاتورك، ففي أواخر عهد السلطان عبد الحميد وصلت السلطنة إلى حالة واضحة من الضعف، هنا كانت الظروف مهيأة لظهور داعية تركي يدعى "عبيد الله" ذاعت شهرته بسرعة بالغة، وكانت كلماته الحماسية تسعى إلى بعث الروح التركية من جديد، تقول بعض تلك الكلمات (أتقدسون أسماء خلفاء العرب على جدران مساجدكم وتتركون خلفاء الترك، إنه الجهل، إنّها الغفلة.. علينا دراسة تاريخ الأسلاف العظام جنكيزخان وهولاكو وأوغوز وتيمور لنك). وقد جمعت كلمات هذا الداعية في كتاب كان له صفة القداسة عند الأتراك، لذلك عندما جاء أتاتورك إلى سدة الحكم وجد هذا التراث وتلك الروح، فلم يفعل سوى أن وضع قواعد صارمة لها من خلال حزب منظم، وجهاز إعلامى، وجيش يحرس هذه الأفكار بما يملكه من تراث يتمثل في القوة وعدم القبول بالآخر بل ومطاردته وسحقه إن تمكن، بلا رحمة. خروج تدريجي من الإرث الأتاتوركي لقد كانت الدعائم الأساسية التي وضعها أتاتورك لتشييد الجمهورية التركية هي (القومية، الجمهورية، النزعة الشعبية، العلمانية، تدخل الدولة، الثورية).. وفي ظلال التعبئة الأيديولوجية المستمرة، اتسمت التجربة السياسية الممتدة لأتاتورك، وخلفائه من بعده، ولحزب الشعب الجمهوري الذي أسسه، والذي تولى قيادة الدولة من بعده حتى عام 1950، بكونها تجربة استبدادية الطابع، مغلفة بروح أبوية وصائية. وفي ظلال هذه التجربة نما وترسخ دور المؤسسة العسكرية كحارس أمين يسهر على تطبيق مبادئ أبي الأتراك، وبالتالي تمتع الجيش بنفوذ كبير واستقلالية قاطعة، وسلطات قلّ نظيرها، إلى الحد الذي أصبحت في تركيا دولتان، الأولى للسياسيين يناورون فيها بأحزابهم ويتحدثون عن وجود ديمقراطية في تركيا، في مقابل الدولة الثانية التي عمادها المؤسسة العسكرية، والمكلفة بحماية المبادئ التي أرساها أتاتورك. وقد عبر أحد الباحثين الأتراك في أحد المراكز البحثية عن ذلك بقوله: "إنّ العسكر يشكلون حكومة خفية أخرى في تركيا، وكل المؤسسات الموجودة ما هي إلّا واجهات تنفذ إرادة تلك الحكومة الخفية".. تلك هي الحقيقة التي كانت راسخة في تركيا حتى وقت قريب، ولذلك كان أمرا مدهشا ومفاجئا وخارجا عن السياق العام، أن يقوم رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان بإلقاء القبض على مجموعة من جنرالات الجيش التركي ويقدمهم للمحاكمة بتهمة الإعداد لانقلاب عسكري، إذ كان ذلك مؤشرا واضحا بأنّ هناك تحولات هامة تجري في تركيا، وأنّ هناك محاولات ناعمة تجري للفكاك من أسر الأتاتوركية. لقد كانت نظرة وعلاقة تركيا بدول الجوار تتسم بالاستعلاء، إذ كانت تلك الدول باستثناء إيران مستعمرات للدولة العثمانية، أما إيران فقد كان بينها وبين تركيا صراعات دموية كثيرة لأسباب مذهبية من ناحية وصراع على النفوذ من ناحية أخرى، وكانت بينهما حروب دامية على مرّ التاريخ انتهت باتفاقية أرضروم (1823)، لكن ظلت على الدوام تلك العلاقات الباردة بين الدولتين، والتي كانت تتوتر من حين لآخر وفقا للمستجدات الإقليمية، وظهر هذا بجلاء في السنوات الأخيرة مع سقوط النظام العراقي وممارسة الطرفان (تركيا وإيران) لعبة شد الحبل داخل العراق، لذلك كانت زيارة وزير الخارجية التركي الودية لإيران مؤشرا واضحا على تلك التحولات التي حدثت في علاقة تركيا بجيرانها الآسيويين، لأنّ العلاقة مع جيران الشمال تأخذ بعدا آخر. تركيا تتغير داخليا وخارجيا وننتقل إلى مسألة بالغة الأهمية تؤكد أنّ تركيا قد قطعت شوطا كبيرا على طريق الخروج من أسر الأتاتوركية، وهي المتعلقة بعلاقة الدولة بالأقليات. كانت تلك العلاقة في السنوات الماضية أحد الشروط الهامة التي وضعها الاتحاد الأوروبي كي يوافق على انضمام تركيا إليه، وكانت تركيا في هذا السياق تقوم ببعض الإجراءات الإصلاحية الشكلية تجاه الأقليات في محاولة لتنفيذ شروط الاتحاد الأوروبي، ولكنها كانت إجراءات غير مقنعة للاتحاد ولا للأقليات داخل تركيا، وأدى هذا الوضع إلى الرفض المتوالي من قبل الاتحاد الأوروبي لضم تركيا إليه، فضلا عن الأزمات الداخلية المتلاحقة والعنف الذي كان يمثله حزب العمال الكردستاني، والذي أدى إلى نزيف دموي هائل، فضلا عن حدوث ما يشبه الانهيار التام للعملة التركية (الليرة). ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2003 وجد هذا الوضع المتردّي في الأمن والاقتصاد؛ فبدأ في التحرك على محورين، فبالنسبة للاقتصاد وجد أنّ محاولاته للانضمام للاتحاد الأوروبي هي محاولات شبه عبثية وأنها ربما كانت جريا وراء سراب وربما كانت أيضا أشبه بحالة رومانسية تسعى للانسلاخ عن المحيط الآسيوي المسلم والارتباط بأوروبا المتحضرة، لذلك بدأت حكومة حزب العدالة والتنمية وبنعومة لا تضع مسألة انضمامها للاتحاد الأوروبي أولويتها الأولى كما كان في السنوات الماضية، ووجدت أنّ من صالح اقتصادها أن تتجه جنوبا وتتخلى عن نظرة الاستعلاء على شعوب المنطقة، فبدأت الزيارات والاتصالات مع دول الجوار الجنوبية، والتي بينها وبين تركيا تراث تاريخي كبير، وعقدت الاتفاقات التجارية وانتعش الاقتصاد التركي. وفي نفس الوقت سعت تركيا كي يكون لها دور إقليمي متميز؛ فكان دورها كوسيط في محادثات غير مباشرة بين سوريا وإسرائيل، وبداية علاقات متوترة مع إسرائيل، وتمثل ذلك في موقف أردوغان الحاد في مؤتمر دافوس الدولي ضد رئيس إسرائيل شيمون بيريز. أما على صعيد الأقليات العرقية؛ فكانت المصالحة التاريخية مع الأرمن، ومن بعدها نأتي إلى المسألة الكردية في تركيا ومعضلة حزب العمال الكردستاني، فقد وضعت الحكومة ما يشبه خطة طريق غير معلنة للتعامل مع تلك المشكلة، وبعد أن كان من المحرمات استخدام لفظ كرد، وتحريم استخدام اللغة الكردية، بل والأغاني والأزياء الكردية المميزة، كما أنّ التعليم باللغة الكردية كان من المحرمات (وعلى سبيل المثال تمّ الحكم بإعدام نائب كردي يدعى حسن خيري في عهد أتاتورك لأنّه ذهب إلى البرلمان بالملابس الكردية، وفيما بعد تمّ الحكم بالسجن على نائبة كردية شهيرة هي ليلى زانا لأنّها رددت قسم العضوية في البرلمان باللغة الكردية).. بعد هذا كله، ووسط معارضة شديدة من العسكر، اعترفت حكومة حزب العدالة والتنمية بالقومية الكردية، وبأنّ أكراد تركيا لديهم مشاكل ستسعى الحكومة لحلها، ثم بدأت بالسماح التدريجي لما كان من المحرمات في الماضي القريب، ومنها احتفال الأكراد بعيدهم القومي "النوروز"، ثم بإصدار بعض المطبوعات والصحف باللغة الكردية، بل وتخصيص ساعات إرسال إذاعي وتليفزيوني كردي، ومن بعدها أنشئت محطات إذاعية وتليفزيونية كردية، بل وقامت الحكومة بالإفراج عن ليلى زانا وبعض من رفاقها، واستقبلوا في مدينة ديار بكر أكبر مدينة كردية تركية استقبال الفاتحين، كما تمّ السماح بتأسيس أحزاب سياسية كردية خاضت الانتخابات الأخيرة بصفتها القومية، وأصبح لتلك الأحزاب نواب في البرلمان التركي. ومؤخرا كان الخبر الأهم، وهو أنّ الحكومة ستعرض خطة كاملة لحل تلك المشكلة على البرلمان، وقوبل ذلك بالرفض العنيف من حزب الشعب الجمهوري المعارض حيث اتهم ممثلوه في البرلمان الحكومة بأنها تسعى إلى تقسيم تركيا. وقد أدت الخطوات التي اتخذتها الحكومة التركية تجاه تلك المشكلة إلى سحب البساط تدريجيا من تحت أقدام حزب العمال الكردستاني الذي اقترب من العزلة عن محيطه الشعبي الكردي في جبل قنديل بشمال العراق، مما أدى به إلى الإعلان عن استعداده للتحول السلمي، وقام بعض مقاتليه بعبور الحدود إلى تركيا في قافلة سلام، أو استسلام، وحسب مصدر الخطاب كرديا كان أم تركيا. ومن المشاكل العقدية التي ورثتها حكومة حزب العدالة والتنمية هي موقف تركيا مما يجري على حدودها في الجنوب، وكانت تضع ثلاث لاءات، إن تم تجاوز إحداها فإنها تعطي لنفسها الحق في القيام بعمل ما عسكري كان أم سياسي، واللاءات الثلاث هي: (كركوك وتركمان العراق والتطور السياسي لأكراد العراق). ونذكر أنّه بعد سقوط النظام العراقي السابق، دخلت قوات البيشمركة إلى مدينة كركوك، وفي رد فعل عنيف اجتمع مجلس الأمن القومي التركي ووجه إنذارا شديد اللهجة خرجت بموجبه على الفور تلك القوات من كركوك، إلّا أنّه في الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية التركي قال: "إنّ كركوك مشكلة عراقية داخلية وإنّ على العرب والأكراد والتركمان أن يتعاونوا معا من أجل التنمية والرخاء". بالفعل تركيا تسعى بإصرار للخروج من أسر الأتاتوركية، لأنّها اكتشفت أنّ نظرية الحكم تلك كلفتها الكثير، ولم تكن تلك الكلمة التي جاءت على لسان أردوغان (أجدادي العثمانيون) عفوية، بل كان لها على وجه اليقين دلالاتها التي تنزل شيئا فشئيا إلى أرض الواقع.