بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفاضل الكلام بين النقد العلمي والتحكّم الشخصي -مقبل الدعدي
نشر في الحوار نت يوم 10 - 04 - 2015

تفاضل الكلام بين النقد العلمي والتحكّم الشخصي.. الشعر أنموذجًا
"الحكم على الكلام البليغ، وعلى النمط العالي في اللغة حكمٌ ذاتي لا يستند على أسس علمية، بل يعتمد على الذوق الشخصي المختلف بين شخص وآخر، وتؤثر في حكمه اعتبارات عدة من البيئة والمزاج النفسي وكمية الارتياح التي يشعّها النص المسموع، وعليه فقد يختلف الحكم ليس من شخص وآخر فحسب، بل قد يختلف عند شخص واحد في حالتين مختلفتين".
تلك مقدمة تتداولها بعض الألسنة، وتسطرها بعض الأقلام، ويتبعها إنكار تفاوت الكلام وتفاضله، ومن ثمّ إنكار الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم، وفي هذا المقال سنسلط الضوء على هذه المقدمة لمعرفة حقيقتها، واختبار صحتها دون الدخول في مناقشة إعجاز القرآن. فهدف المقال إذًا هو معرفة الحكم على الفن الأدبي بأنواعه الشعرية والنثرية؛ أينطلق من أسس علمية أم يعتمد على التحكّم الشخصي؟
وللإجابة على هذا السؤال ينبغي الرجوع إلى بدايات الفن الأدبي، وبواكير النقد، والمحاولات الأولية لتدوين الشعر، وتوثيق الآراء فيه، فنتنقل بين الفن وصناعته، والناقد وأدواته، مع توخي الاختصار بما يتناسب وهدف المقال.
من خصائص الفن البارزة، ومنها البلاغة والفصاحة الدالة على تفاضل في الفن وتفاوته، خاصية التعلّم، وخاصية المراجعة والتنقيح، وسيأتي بيان ذلك في نوع من أنواع الفن وهو الشعر:

تعلّم الشعر
تشير النصوص التاريخية إلى ظاهرة في الأدب العربي تنبؤ عن إمكانية تعلّم الشعر، وأنّ شأنه شأن كثير من الفنون الأخرى لا يقتصر على الاستعداد الفطري، بل لابدّ له من دربة تحت إشراف أستاذ متخصص. يقول في تلك الظاهرة طه إبراهيم: "من الشعراء الجاهليين من كان له أساتذة ومرشدون يأخذ عنهم رسوم الشعر، ويتعلم بعض أصوله" . وعند تأكيد حازم القرطاجني ضرورة الدّربة وأهمية تصحيح المعاني والحاجة إلى تقويم الطباع وترويض النفوس؛ يشير إلى أن ذلك ديدن الشعراء الذين عاشوا في بيئة عربية أرقى من البيئة في عصره، فيقول: "وكيف يظن ظان أن العرب على ما اختصت به من جودة الطباع لنشئهم على الرياضة واستجداد المواضع وانتجاع الرياض العوازب فضلًا عن هذه الطباع التي داخلها الفساد منذ زمان واستولى عليها الخلل؛ كانت تستغني عن التعليم والإرشاد إلى كيفيات المباني التي يجب أن يوضع عليها الكلام، والتعريف بأنحاء التصرف المستحسن في جميع ذلك، والتنبيه على الجهات التي منها يداخل الخلل المعاني ويقع الفساد في تأليف الألفاظ والمعاني. وأنت لا تجد شاعرًا مجيدًا منهم إلا وقد لزم شاعرًا آخر المدة الطويلة، وتعلم منه قوانين النظم، واستفاد عنه الدربة في أنحاء التصاريف البلاغية" .
وفي نص بديع للأصمعي يرسم به طريق الفحولة الشعرية يقول: "لا يصير الشاعر في قريض الشعر فحلاً حتى يروي أشعار العرب، ويسمع الأخبار، ويعرف المعاني، وتدور في مسامعه الألفاظ. وأول ذلك أنه يعلم العروض؛ ليكون ميزاناً له على قوله، والنحو ليصلح به لسانه وليقيم به إعرابه، والنسب وأيام الناس؛ ليستعين بذلك على معرفة المناقب والمثالب وذكرها بمدح أو ذم" .
من هذه النصوص – وغيرها كثير – يتضح أنّ البلاغة بصفة عامة، والشعر بصفة خاصة، قابل للتعلّم، فإذا كانت كذلك، فيُبنى على ذلك أنّ هناك قواعد وأصول وقوانين لذلك الفن، والإخلال بها يعود على العمل الفني بالإبطال، أو الإخلال، والحكم على العمل بأحد هذين الحكمين إذا كان مبنيًا على أصول الفن وقواعده انتفى أن يكون تحكميًا، وصار علميًا مبنيا على أسس.
ويتضح كذلك من تلك النصوص أنّ العرب تلمس تلك الأصول، وأصحاب الصنعة مدركون لها، فلذلك كانوا يختارون أساتذتهم الشعراء فيحفظون أشعارهم ويروونها عنهم، ولم يركنوا إلى الموهبة دون صقلها، وفي ذلك يقول القرطاجني: "لم تكن العرب تستغني بصحة طباعها وجودة أفكارها عن تسديد طباعها وتقويمها باعتبار معاني الكلام بالقوانين المصححة لها، وجعلها ذلك علما تتدارسه في أنديتها ويستدرك به بعضهم على بعض وتبصير بعضهم بعضا في ذلك. وقد نقل الرواة من ذلك الشيء الكثير لكنه مفرق في الكتب، لو تتبعه متتبع متمكن من الكتب الواقع فيها ذلك لاستخرج منه علما كثيرا موافقا للقوانين التي وضعها البلغاء في هذه الصناعة" .
وإليك خبر الشاعر المعروف زهير مع ابنه الصغير كعب، فقد كان يمنعه – وهو الخبير بالشعر- من قول الشعر حتى اختبره في غير مرة، وبعد أن تبين له تمكّنه من آلة الشعر سمح له بقرض الشعر وإنشاده .
فالشعر صناعة كما يقول قدامة بن جعفر منه الجيد والحسن، وفيه الهزيل القبيح: "ولما كان للشعر صناعة، وكان الغرض في كل صناعة إجراء ما يصنع ويعمل بها على غاية التجويد والكمال، إذ كان جميع ما يؤلف ويصنع على سبيل الصناعات والمهن، فله طرفان؛ أحدهما غاية الجودة، والآخر غاية الرداءة، وحدود بينهما تسمى الوسائط، وكان كل قاصد لشيء من ذلك فإنما يقصد الطرف الأجود، فإن كان معه من القوة في الصناعة ما يبلغه إياه، سمي حاذقاً تام الحذق، وإن قصر عن ذلك نزل له اسم بحسب الموضع الذي يبلغه في القرب من تلك الغاية والبعد عنها، كان الشعر أيضاً، إذ كان جارياً على سبيل سائر الصناعات، مقصوداً فيه وفي ما يحاك ويؤلف منه إلى غاية التجويد، فكان العاجز عن هذه الغاية من الشعراء إنما هو من ضعفت صناعته" . والحكم على ما بلغ الجودة، وما وصل الغاية في الرداءة مبنيٌ على أصول تلك الصناعة.

تنقيح الشعر
عُرف شعراء في الأدب العربي بتنقيحهم الشعر، والنظر فيه كرة بعد كرة قبل إخراجه، وكانت القصيدة تمكث في صدر قائلها حولًا كاملًا قبل إنشادها، يقلب الشاعر فكره فيها، فيزيد وينقص ويقدم ويؤخر ويستبدل معانٍ بأخرى أقوى، وألفاظ بغيرها أجود، وكانت تُسمى تلك القصائد الحوّليات والمنقّحات والمقلّدات والمحككات، وهي تدل على المفهوم المذكور سابقًا، يقول الجاحظ: "من شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولا كريتا، وزمنا طويلا، يردد فيها نظره، ويجيل فيها عقله، ويقلب فيها رأيه، اتهاما لعقله، وتتبعا على نفسه، فيجعل عقله، زماما على رأيه، ورأيه عيارا على شعره، إشفاقا على أدبه، وإحرازا لما خوله الله تعالى من نعمته" .
فالشاعر المنقّح يدرك تفاوت الكلام وتفاضله، وإلا أصبح تأخيره لا مبرر له، والتفاوت عائدٌ لأسباب موضوعية من إصابة معنى، واختيار لفظ، وتفضيل وزن وقافية، ولم يذكر أحد من النقاد أنّ التأخير في إخراج القصيدة يعود لأسباب غير موضوعية كنفسية الشاعر والمتلقي، أو انتظار أحداث تكون فيها القصيدة أكثر تأثيرًا، وكذلك لم يؤثر عن الشعراء أنفسهم ما يوحي بذلك.
يقول حمّادي صمّود معلقًا على تنقيح الشعر: "وفي هذا وعي بأهمية عنصر الاختيار في العمل الشعري، وتجاوز لمقولة الفطرة والسليقة في الأدب العربي، وإقرار ضمني بتفاضل الكلام في الفصاحة" .

نقد الشعر
إنّ ما سبق بيانه يدل على التفاوت في تعلّم الشعر، والتفاضل في نظمه، وقد نتجت عن ذلك صور عدة من النقد للشعر في التراث العربي تدل دلالة لا لبس فيها على المعايير الموضوعية، والأسس العلمية في الأحكام على الكلام، ومن أبرز تلك الصور:

· حكم الشعراء؛
وهو ما أسميه حكم أهل الصنعة، ولاشك أنّ أهل الصنعة هم أعلم الناس بفنهم، وأدرى الناس بالحكم على صحيحه وسقيمه، وفرز حسنه عن قبيحه، وذاك ظاهر في كل فن وعلم وصنعة، وحكم شاعر على شعر بأنّه جيّد أو ردئ يجب أن يوضع في درجة أرقى من حكم المتذوق للشعر، ومن الشواهد التاريخية على حكم الشعراء ما ذكره عبدالعزيز عتيق من اتفاق أربعة من الشعراء على وصف شعر عمر بن أبي ربيعة، وهم نصيب والفرزدق وجرير وجميل بثينة، فقد أجمعوا على قوة شعر عمر بن أبي ربيعه، وتقدمه في موضوع من موضوعات الشعر وهو النسيب. يقول عبدالعزيز عتيق بعد ذكره نصوص الشعراء السابقين في وصف شعر عمر بن ربيعة: "مما تقدم نرى أربعة من كبار الشعراء المعاصرين لعمر بن أبي ربيعة قد حكموا له بأنّه إمام مجدد في شعر الغزل، وأنّه قد استحدث فيه اتجاهًا جديدًا غير مسبوق" . ومثله اجتماع الفرزدق وجرير على أنّ الأحوص أنسب العرب، وغيرها من أحكام الشعراء.
فأهل الصنعة في كلّ فنّ هم أعرف الناس بحقيقة الفن، وعلى قدرة هائلة على معرفة درجاته، و إدراك ما يدخل في الفن مما هو دخيل عليه، فالسحرة يدركون حقيقة السحر ويستطيعون تمييزه عن غيره من خدع البصر، ولذلك كان أول من آمن من قوم فرعون في يوم الزينة السحرة أنفسهم ؛ لأنهم أدركوا أنّ ما جاء به موسى عليه السلام غير ما عندهم وفوق طاقتهم، وهذا حال الشعراء وأهل الفصاحة يدركون مستويات الشعر والبلاغة.

· حكم النقّاد؛
وهي صورة لا تبتعد كثيرا عن سابقتها، فالناقد البصير يدرك بعلمه وطول تأمله الصحيح والسقيم، ومعرفة الجيد والأجود، وفي الفنون كلّها والصناعات كذلك حكم المختص الملازم للفن مقدم على غيره، وأدعى للبعد عن الذاتية الشخصية، وقد قال قائل لخلف إذا سمعت أنا بالشعر أستحسنه فما أبالى ما قلت أنت فيه وأصحابك، قال إذا أخذت درهما فاستحسنته فقال لك الصراف إنه ردئ فهل ينفعك استحسانك إياه؟ . فموازنة خلف بين عمل الناقد والصرّاف فيها دلالة واضحة على تجاوز التأثر، والحكم الانطباعي إلى نقد موضوعي ينفذ إلى العمل الفني وينبثق منه.
ومن هنا ظهر ما يُسمى بصناعة الناقد، فالناقد كذلك لابد له من إتقان بعض المهارات، وتعلّم جملة من المعارف ليتمكن من النقد المبني على أسس علمية، وقد فصّل العلماء السابقين الحديث في هذه القضية، يقول في ذلك الآمدي: "من عرف بكثرة النظر في الشعر والارتياض فيه وطول الملابسة له أن يقضي له بالعلم بالشعر والمعرفة بأغراضه، وأن يسلم له الحكم فيه، ويقبل منه ما يقوله، ويعمل على ما يمثله. ولا ينازع في شيء من ذلك؛ إذ كان من الواجب أن يسلم لأهل كل صناعة صناعتهم، ولا يخاصمهم فيها، ولا ينازعهم إلا من كان مثلهم نظراً في الخبرة وطول الدربة والملابسة" . وليس هذا الطريق لصناعة الناقد، وتنمية ذوقه مختص بتذوق الشعر، والكلام البليغ فحسب، بل يعم كل فن يقول زكريا إبراهيم في كلام له لا يختلف كثيرًا عن كلام الآمدي: "إنّ التجرية سرعان ما تظهرنا على أنّ للتربية والدّربة أثرًا واضحًا على ملكة الحكم الجمالي عند الفرد، بدليل أن الاحتكاك الطويل بالأعمال الفنية لابد من أن يصقل ذوقه، ويربي إحساسه الجمالي ويرقق شعوره الفني. وهكذا قد تعمل التربية الفنية عملها في نفس الفرد فتجعله يدرك أن ثمة حكمًا جماليًا صادقًا يمكن اعتباره بمثابة ترجمة نقدية حاسمة للموضوع، وكأننا بإزاء مرآة صادقة تعكس صورة العمل الفني بكل دقة ووضوح وأمانة. وإذا كان الفن لا يحيا إلا على التخصص، بل إذا كان الفن هو بمعنى ما من المعاني عالم المتخصص، فليس بدعًا أن تكون مهمة التربية الفنية (والثقافة الجمالية بصفة عامة) هي العمل على تعويدنا كيف نرى العمل الفني".
إذًا الناقد المتخصص تُعد أحكامه موضوعية، أو قريبة منها يبرز بأدواته جماليات النصوص، ويعكس طبيعتها، ولعل من أبرز ما تظهر فيه قوة الناقد في التراث العربي، والعالم بالشعر ومذاهبه، كتب المختارات الشعرية، فهي تعكس ذوق العالم وفلسفته في الاختيار، و قوة علمه بالشعر، وكذلك كتب الموازنات الشعرية، فهي ميدان للنقد وإبراز محاسن النصوص الأدبية ومساوئها، ومن أشهر تلك الموازنات موازنة الآمدي بين أبي تمام والبحتري يقول في مقدمتها موضحًا منهجه في الموازنة بعد أن ذكر حجج القائلين بتفضيل أبي تمام والعكس: "فأما أنا فلست أفصح بتفضيل أحدهما على الآخر، ولكني أوازن بين قصيدتين من شعرهما إذا اتفقتا في الوزن والقافية وإعراب القافية، وبين معنى ومعنى، فأقول: أيهما أشعر في تلك القصيدة، وفي ذلك المعنى، ثم أحكم أنت حينئذ على جملة ما لكل واحد منهما إذا أحطت علماً بالجيد والردئ" .
ولولا خشية الإطالة لذكرت نماذج للموازنة، وعرضت بعض النقد الذي شمل المعاني والألفاظ والمناسبة، وأي الشاعرين كان أجود في إصابة المعنى المناسب، واللفظ الحسن، وهي تدور في فلك الموضوعية، والتحليل العلمي المبني على المقارنة.

· الأحكام المعلّلة:
تبرز للقارئ للكتب الأدبية كثير من الأحكام النقدية، وفيها تعليل للحكم، وبيان لسببه، فمن ذلك ما ذكره ابن عبدربه الأندلسي في كتابه العقد الفريد إذ يقول: "سمر عبد الملك بن مروان ذات ليلة وعنده كثيّر عزة، فقال له: أنشدني بعض ما قلت في عزة، فأنشده إلى هذا البيت:
هممت وهمّت، ثم هابت وهبتها حياء، ومثلي بالحياء حقيق
فقال له عبد الملك: أما والله لولا بيت أنشدتنيه قبل هذا لحرمتك جائزتك! قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأنك شركتها معك في الهيبة، ثم استأثرت بالحياء دونها" .
فقد استاء عبد الملك من القصيدة لخطأ وقع فيه الشاعر في المعنى، وقريب منه ما وقع فيه المتلمس إذ يقول:
وقد أتانسى الهمّ عند احتضاره بناج عليه الصّيعريّة مكدم
والصّيعريّة سمة للنّوق لا للفحول، فجعلها لفحل. وسمعه طرفة وهو صبىّ ينشد هذا، فقال: استنوق الجمل ! فضحك الناس وسارت مثلا.
وكذلك عابوا على ذي الرمة قوله:
حتّى إذا دوّمت في الأرض راجعه كبر، ولو شاء نجّى نفسه الهرب
قالوا: والتّدويم إنما هو في الجوّ، يقال: دوّم الطائر في السماء، إذا حلّق واستدار (فيطيرانه، ودوّى في الأرض: أي: ذهب.
ونقدوا قول الشاعر:
وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبر حرب قبر
لنفرة الألفاظ وغير ملاءمتها، فالعيب هنا عيب لفظي تركيبي، وليس كسابقه معنوي. والأمثلة على مثل هذه الأحكام المعللة أكثر من أن تُحصى، فاضت بها كتب الأدب، وكما كان التعليل في الأحكام التي أبرزت مساوئ القصيدة، فقد تكون العكس. وبالجملة فتلك الأحكام مبنية على أصول لغوية وتركيبية وموسيقية شعرية، فهي موضوعية في الأعم الغالب بعيدة عن الأذواق الفردية.

· الذوق الجماع:
من صور النقد الموضوعي المتجاوز للذات الفردية ما تتفق على جماله الأذواق، فاتفاق الناس أو جلّهم على حسن عمل فني أو قبحه دليل على موضوعية هذا الاختيار، وأنّ الحسن أو القبح نابعٌ من العمل ذاته؛ لأنّه قد اُتفق على وصفه مع اختلاف الواصفين، ولو كان الاتفاق من النقاد والمتخصصين كان أدل على الموضوعية، وأقرب إلى الحقيقة، وقد جعل الآمدي اتفاق أهل العلم محل اختبار للمبتدئ الذي يروم النقد، ويطمح في تعلم صناعة الشعر يقول: "فإني أدلك على ما ينتهي بك إلى البصيرة والعلم بأمر نفسك في معرفتك بأمر هذه الصناعة أو الجهل بها، وهو أن تنظر ما أجمع عليه الأئمة في علم الشعر من تفضيل بعض الشعراء على بعض، فإن عرفت علة ذلك فقد علمت، وإن لم تعرفها فقد جهلت، وذلك بأن تتأمل شعري أوس بن حجر والنابغة الجعدي؛ فتنظر من أين فضلوا أوساً، وتنظر في شعري بشر بن أبي خازم وتميم ابن أبي بن مقبل، فتنظر من أين فضلوا بشرا".

هذه صور من صور النقد الأدبي، وشيء من معاناة الشعراء في سبيل الوصول إلى الكمال الشعري، والغاية البلاغية، وهي تدل دلالة واضحة على خطأ المقدمة المذكورة أول المقال، وتؤكد أنّ أصحاب تلك المقدمة وقعوا في أخطاء علمية، وأخرى منهجية، وقد كانت العودة إلى تاريخ العلوم التي اكتنفت دراسة النصوص الأدبية ونقدها بمنهج علمي؛ كفيلة بتفنيد تلك المقولة المتهافتة التي هي أقرب إلى الزعم منها إلى الفرضية العلمية، وما لم أذكره من نماذج فوق ما ذكرت، وهناك قضايا بحثها النقد الأدبي العربي يمكن توظيفها في الرد على ذاك الزعم،كقضية اللفظ والمعنى، وعمود الشعر، والسرقات والانتحال وما يتبعهما من معرفة خصائص الشاعر، والمفاضلة بين الشعر والنثر، وغيرها من القضايا الدالة على البناء العلمي للنقد الأدبي والبلاغة العربية، وهذا لا يعني خلو التراث النقدي من الأحكام الشخصية، والنقد الانطباعي، والاختيارات المبنية على الأهواء وحظوظ النفس من مدح قريب، وذم غريب، ولكن الأساس الذي بُني عليه العلم البلاغي والنقدي أساس علمي، ولو اطّلع الباحث المنصف على المصطلحات النقدية ومفاهيمها لأدرك ذلك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.