العلماء و أولو الأمر و مضات من تراث العلامة محمد الخضر حسين ( توفي رحمه الله يوم 2 فيفري 1958 ) ابراهيم بلكيلاني ( النرويج )
" العلماء المخلصون ، و الأمراء العادلون هم قواعد الشعب الاسلامي . فإذا اختلفا في جوانب الثقافة ، فينبغي للأمراء أن يراعوا حقائق الشريعة و آدابها ، و ينبغي للعلماء أن يتحروا ما راعته الشريعة في نصوصها و قواعدها من مصالح المسلمين ، فبذلك يلتقي العلماء و الأمراء على رعاية حقائق الشريعة و مصالح الجماعة الزمنية " . ( حسين ، 1975 ، ص 132 )
لا تزال اشكالية العلاقة بين الحاكم والعالم ( و نخص بالذكر عالم الشريعة دون غيره ) ، محل نظر متواصل في حقول العلوم الانسانية و علوم الشريعة . و تطفو هذه المسألة من جديد خاصة عندما تعيش الأمة حالة انتكاسة ، فترى أفرادها يبرئون أنفسهم من المسؤولية ، و يبررون لعطالتهم بتحميل الحكام مسؤولية الركود و التخلف و انسداد الأفق ، و العلماء بعجزهم عن قيادة الأمة و تربية الأجيال و مواجهة الفساد . فبين استبداد الحكام و انزواء العلماء تدور المبررات . أما في الحالة التونسة فقد خفت صوت العلماء و خبت وضاءتهم ، و استطاعت النخبة العلمانية أن تزيحهم و تقطع علاقة التأثير المتبادل بينهم و بين الحاكم . و استبدل دور عالم الشريعة بالمتخصصين في العلوم الانسانية . و حَصر دورهم في احتفاليات موسمية . على رغم أن في بداية تشكل الدولة و بحضور أعلام لهم من العلم و المعرفة و الحضور في العالم الاسلامي الأمر المعلوم ، كان استئناس الدولة برأي النخبة من علماء الشريعة أمر بيّن و جليّ ، و كان رأيهم له اعتبار في نفوس الشعب و في ارادة الدولة كما بينته أحداث مقاومة الاستعمار ، الاستقلال الذاتي ، و القرض الوطني ، و الصوم و الانتاج .. فقد كان حضور الشيخ محمد العزيز جعيط ، و الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور و الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور و غيرهم بارز . و ساهم وجودهم في الابقاء على العلاقة في حدود مقبولة ، و إن لم تكن بالصورة المثلى. فاستمرارية السلالات العلمية : آل جعيط ، آل عاشور ، آل الخوجة ، آل النيفر .. كان لها مساهمات في توطيد مكانة العلماء في المجتمع و استمراريتهم . و لكن اليوم ترى ضمور في الانتاج الفكري الديني العلمائي التونسي ، و يكاد يقتصر حضور العلماء التونسيون في المجمعات و المؤتمرات الدولية الفقهية ، و الذين لهم مساهمات علمية فقهية و تأصيلية ، و تأثيرا في تلك المداولات هما الشيخان : محمد الحبيب بلخوجة و محمد المختار السلامي حفظهما الله . إضافة إلى المساهمات المرموقة للدكتور عدالمجيد النجار على غير الطريقة المشيخية فهو في تقديرنا يمزج بين الطريقة النخبوية و الحركية . كيف كان العلماء يرون العلاقة بينهم و بين الحكام ؟ . للنظر في هذه الاشكالية نستدعي تراث الشيخ محمد الخضر حسين ، العالم الزيتوني الذي تبوّأ مشيخة الأزهر ( 1952-1954) و قد وصف الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور تلك الحقبة بأنه " ليحق لهذه الحقبة من التاريخ التي تظلنا أن تفخر بأنها التي بلغت فيها الصلات بين الأزهر و الزيتونة أوجها ، فقد احتضن الأزهر إماما من أئمة الأعلام ، كان أحد شيوخ الزيتونة العظام " . و قد كان الشيخ محمد الخضر حسين : عالما و أديبا شاعرا و مفكرا و عارفا بالعديد من اللغات .
ما فائدة تناول هذه المسألة اليوم : أولا التعرف على رأي علماء الزيتونة في هذه المسألة و رفع الغبار عن تراثهم و التقاط بعض من و مضات تراث الامام محمد الخضر حسين رحمهم الله جميعا . ثانيا كما يشير العلامة محمد الخضر حسين : إن العلماء المخلصون ، و الأمراء العادلون هم قواعد المجتمع الاسلامي .فالاسلام هوية الدولة و الشعب مهما طرأ من حوادث و شوائب . و في انفتاح الحكام على العلماء يشيع الراحة الظاهرة في النفوس بتمسكهم بهوية البلاد . و في انفتاح العلماء على الحكام سعيا محمودا لكبح جموح التطرف العلماني ، و شيوعا لراحة مرضية و ثقة بالهوية . ثالثا إن انسداد الواقع ، و تشعب الصراع السياسي ليكون فهم محددات الهوية و مكوناتها أحد أبعاده الأساسية يدعو إلى البحث عن مقاربة أخرى و طريق جديد . يبدأ بتحرير النظر في مسألة العلاقة بين الدولة و الرموز الدينية ، و أبرزها دور العلماء في التقريب و الوصل . ستحاول هذه المقاربة نبش التراث الزيتوني من خلال عرض تصور العلامة محمد الخضر حسين لعلاقة العلماء بالحكم و جدلية الفعل و اللافعل . في توصيفه لحال العلماء مع الحكام ، يقسمهم الشيخ محمد الخضر حسين إلى ثلاثة أصناف : 1. القائلون بوجوب النصيحة :
فهم من يعتبرون أن من ابرز مهام العلماء تقديم النصيحة إلى الأمة : حكاما و رعايا ، و في ذلك أداء للواجب الشرعي. و بانتفائه تكون ثلمة في دور العالم و خدش لصورته و تفويت لمصالح الأمة . و يصف الشيخ الخضر القائل بهذا الرأي بأنه : " عالم يضع نصب عينه رضا الله ، و يهمه أن يسير أولي الأمر في الناس على استقامة . فيأمر بالمعروف ، و ينهى عن المنكر بمرأى و مسمع منهم ، غير مبال بأن يقع أمره أو نهيه لديهم موقع الرضا و القبول ، أو موقع الكراهية و الإعراض عنه " ( حسين ، 1990 ، ص80 ) و حرصا على الدقة و الموضوعية يشير فضيلته إلى وجود اختلافات في كيفية ممارسة النصيحة بين هذا الصنف على رغم اتفاقهم على مقولة الوجوب ، و يستشهد فضيله لكل قسم بأمثلة عملية من سيرة العلماء ، ويقسمهم تبعا للطرق و الأساليب المعتمدة في النصح : 1) الأسلوب المباشر: و هو الذي يرى أن طريق التصريح و التعيين أبلغ و أقرب إلى نجاح الدعوة . 2) الاسلوب غير المباشر : سلوك الطريق غير الصريح و اعتباره يحقق الأهداف . 3) أسلوب العزيمة : نصح الحكام بالعزيمة ، مع توطين النفس على احتمال كل ما يمكن أن يلاقيه من أذى . 4) السكوت: و يسلكه "من يرى أن له فيما يلحقه من الأذى عذرا في السكوت و عدم التعرض للسلطان أمر أو نهي "( حسين ، 1990 ، ص81 ) . و لا يفوت الشيخ التعليق على هذا الأسلوب " و يصح القول أن يقال : إن هؤلاء قد أخذوا بالرخصة ، و ليس لهم من قوة الصبر على الأذى ما يحملهم على أن يأخذوا بالعزيمة ، و يجاهروا بالدعوة إلى حق أو إصلاح " ( حسين ، 1990 ، ص81 ). و مع تصنيفه لهم داخل إطار الرخصة إلا أنه قيّدهم " و إذا جاز للعالم أن يسكت عن الأمر أو النهي اتقاء لأذى لا طاقة له به ، فليس له أن يكتم الحق بمجرد الخوف من أن يجفوه السلطان ، أو يبعده من مجلسه ، أو يحرمه من ولاية منصب " ( المصدر نفسه ) .
أما تقسيمه للأمراء في معاملتهم تجاه الصنف القائل بوجوب النصيحة فيحدده في :
1) رفض النصح : يأخذه التعاظم بالاثم ، و يقابل الناصحين بوعيد . 2) القبول المستور : أمير يجد في صدره الحرج من إسماعه الموعظة تأتي على غير ما يهوى ، و لكنه يهاب مكان العالم ، فلا يقابله بأذى . 3) طاعة الحق : و هو أمير تأخذه اليقظة و صفاء الفطرة إلى طاعة الحق و شكر الدعاة ، و متمثلون لنصيحة طاوس بن كيسان إلى عمر بن عبدالعزيز لما ولي الخلافة " إن أردت أن يكون عملك كله خيرا فاستعمل أهل الخير " و قال فيها عمر : كفى بها موعظة ( حسين ، 1990 ، ص84 ) .
2. دعاة العزلة :
و هم من يذهبون مذهب العزلة و البعد من ساحات الأمراء . و عذرهم : 1) بأن لا يقفوا بين يدي ذي نخوة و تعاظم . و يواجههم الشيخ بقوله " و ملاقاة النخوة و التعاظم ليس عذرا يبيح للعالم القعود عن إسماع الأمراء النصيحة ، فقد دخل موسى عليه السلام على فرعون ليدعوه إلى الحق و كان فرعون متكبرا جبّارا "( حسين ، 1990 ، ص ص 81-82 ) . 2) الابتعاد كراهة مشاهدة المنكر . و يرى فيه الشيخ " قد يكون الابتعاد حكمة متى عرف العالم أنه لا يستطيع النصح بازالة ذلك المنكر ، و أنه لا يجتني من رؤيته إلا حسرة و أسفا .. و قد يكون الاقتراب خيرا من الابتعاد ، متى قصد بالاقتراب ايصال النصيحة إليهم ، عسى أن تجد أذانا واعية او نفسا زاكية "( حسين ، 1990 ، ص82 ) . 3. التردد على ساحة الامراء :
و هو " عالم يتردد على ساحة الأمراء ، و يميل مع أهوائهم ، و ربما بلغ به الاغراق في ابتغاء مرضاتهم أن يحرف أحكام الله عن مواضعها ، و مثل هذا الصنف من العلماء لا يرجى منهم أن يبسطوا ألسنتهم إلى السلطان بنصيحة " (حسين ، 1990 ، ص82 ) . جنايات هذا الصنف : يقول الشيخ الخضر " و لهذا الصنف جنايات على الدين و على الأمة و على الأمراء أنفسهم " : 1) الجناية على الدين : اختلاق أحكام و الصاقها بالدين و هي ليست منه . 2) الجناية على الأمة : " يسهلون على الولاة السير بالسياسة في طريقة عمياء " 3) الجناية على الحكام : بتعميق الهوة بين الحكام و رعاياهم ، بدل المحبة و الطاعة
فضل قبول الحكام لنصح العلماء :
يقرر الشيخ الخضر بأن فضل قبول الحكام لنصح العلماء ، لا يقل عن فضل قيام العلماء بنصيحة الحكام . و يقرر أيضا بأنه " لا تبلغ الأمم مراقي المنع و السيادة إلا أن يكون باب الحرية مفتوحا في وجوه الدعاة المصلحين " و حينها " يقدم العالم الأمين على نصح ذي السلطان غيرة على الحق ، و حرصا على أن يكون ذو السلطان كامل السيرة طيب السمعة ، و كثير من الأمراء من يفهم وعظ العلماء على هذا القصد ، و يكون في نفسه نزعة إلى الاستقامة ، فيتلقى الارشاد بارتياح و شكر " ( حسين ، 1990 ، ص85 ) .
و للحديث بقية
المراجع
1. حسين ، محمد الخضر : الدعوة إلى الاصلاح . حققه : علي الرضا الحسيني . الدار الحسينية للكتاب ، ط3 ، 1990 . 2. حسين ، محمد الخضر : دراسات في الشريعة الاسلامية . جمعه و حققه : علي الرضا الحسيني . المطبعة التعاونية ، دمشق ، 1975 . 3. حسين ، محمد الخضر : رسائل الاصلاح ، المطبعة التعاونية ، دمشق ، 1971