نشر السيد حسن بن عثمان نصا* تعرض فيه لمقالاتي بجريدة «الصباح» وقد نهج فيه نهجا لا يبدو علميا لذلك أسوق جملة من الملاحظات أهمها:
النقد واللدغ
السيد حسن بن عثمان يريد تبليغ «معلومة» محددة يظنها مؤذية أو يمني النفس بأن تكون كذلك حيث يعتمد منهجا «معاصرا» في «النقد» يقومُ على» اللدغ» وعلى كشف «الأوساط المُعَيّنة» التي ينتمي إليها المعني بالنقد أو «اللدغ» تأملوا قوله: «الذي هو شاعرٌ معروف في أوساط معينة ويُعبر فكريا عن انتماء إلى اتجاه مخصوص». أشكرك على تشريفي بأنني «معروفٌ». وأما عن الأوساط المعينة فأرجو أن تدل عليها لإتمام «المعروف» ولعلك واحدٌ من تلك «الأوساط» بما أنك من الذين يعرفونني! وأما إن كنتَ بصدد تحسس نافذة تتسلل منها فدونك وإياها!
وأما تأكيدك انتمائي «إلى اتجاه مخصوص» فتلك «معلومة «أجهلها عن نفسي إذ بي شوق إلى الإنسان / المفرد الجمع وإلى الفكرة حرة شجاعة وإلى شركاء المكان لا أستثني أحدا وأعتز بأنني ذو حمية وطنية لكل تونسي من حيث هو كذلك.
كأن بالسيد حسن بن عثمان يُقدمُ نفسه خبيرَ» نوايا» يطمحُ إلى تكليفه بمهمة الكشف عن المتسللين في اللغة إذ يقولُ : «فاللغة تكشف هوية من يكتب ويتكلم بها.
التأويل والتهويم
السيد حسن بن عثمان لم يكن معنيا بقراءة النص الذي صدر لي بمنتدى «الصباح» بتاريخ 10 فيفري 2010 بعنوان « في الديمقراطيات العربية « إنما كان على عجل لعمل أي عمل! إنه لم يقرأ النص لا في ظاهر قوله ولا في إيحاءاته مع إنه روائي نشهدُ لهُ بثراء قاموسه وكثافة صوره وطرافة أفكاره رغم انتمائه لعوالم « لا تحت الأرض ولا فوقها» ولمحطات «بروموسبور» ولمحيط «... يفقد صوابهُ « لفرط « الشِيخان»! أنا لا أريد أن أصدق بأن السيد حسن بن عثمان جادّ في استنتاجاته تلك أو إن تلك حدود فهمه حين يقول متعجبا: «نتعجب تمام التعجب من هذا المصطلح الغريب الذي يُحوّل مواطني الدولة الواحدة إلى «شركاء مكان» أي إن ما يجمعهم لا يعدو سوى مكان من الأمكنة يتشاركون في الإقامة عليه. وهكذا وحسب منطوق هذا المصطلح من الممكن تحويل الدولة مثلا إلى شركة بما أنها تضم «شركاء مكان» حسب تعبيره الغريب العجيب. وحينها بإمكان الشركاء حلها أو تقاسمها أو وضع أسهمها في البورصة»... مثل ُهذه المفردات لا يليق إطلاقها على الوطن ولا أجدُ حماسة في الرد عليها ولا أريدُ تصديق كونك تعني ما تقول أو تظن بمن تعتبره شاعرا مثل هذه التصورات ذات الإحالات التجارية وأنت تمضي نصك ب«كاتب وروائي.
شركاء المكان
إذا كان لا بُد من توضيح ما هو متضح فلا بأس من القول بأن صاحب النص هذا ليس «معروفا في أوساط معينة» فقط، بل إنهُ ذو نزوع كوني في تعلقه بفكرة «الحياة» وبقامة «الإنسان» وبقيم الجمال والحرية والحب.... لهُ أشواق أرحب من أيّ «اتجاه مخصوص» ولهُ شجاعة أدبية تدل عليها نصوصهُ،لا يُخفي قناعة ولا يُبيت نوايا فلا تجهد نفسك في استنباطات لن يصدقك فيها أحدٌ.
في مقالات شتى وبمواقع عدة أشرنا إلى أن «المكان» ليس مجرد مساحة جغرافية إنما هو تاريخ وثروة وثقافة ومستقبل وأجيال وحركة في الزمن وبالزمن... وشركاء المكان ليسوا فقط المختلفون في الأفكار والإنتماءات إنما هم أيضا المختلفون في الماهية والنوع من جنس الكائنات غير العاقلة من الحيوانات البرية والأهلية ومن الزواحف أيضا نحفظ وجودها وسلامتها ونحسن التعامل معها ونحفظها من الإنقراض ونمنع الإساءة إليها مع التوقي الدائم من مُحاولات لدغها.. شركاءُ المكان أشجار ونباتات وزهور وأشواكٌ نحرص على حضورها في بيئة متوازنة تكون فيها الحياة ممكنة، شركاء المكان علامات أثرية من صخور وتماثيل ونحوت ونقوش ومخطوطات هي كلها بعض مكونات هوية المكان الذي نسميه «الوطن» نربو به عن أي تسمية مما لا نصدق كونك استنتجتها من مصطلح « شركاء المكان.
إن كان السيد حسن بن عثمان جادا في الكتابة بما هي فعل في التاريخ وإنتاج للمعنى وتنمية للوعي وهندسة للأرواح وانسياب في تفاصيل الحياة فإنهُ قادرٌ على أن يكون واحدا من العلامات الدالة إلى المستقبل... أعتقد أن من أوكد مهام المثقفين ليس فقط خوض النقاش إنما وبالأساس البحث عن جدواه حين يطرحون القضايا الحقيقية وحين يعتمدون مناهج منتجة للمعاني والأفكار وحين يلتزمون قيما تربو عن كل أشكال الإيذاء وعن الأدوار غير الثقافية فلكل ميدان أهله (!) وهم أدرى بتفاصيله ومواقيته.
(الصباح 5 مارس2010) * (نص حسن بن عثمان موضوع الرد ... الصباح 20 فيفري)
شركاء المكان؟ حسن بن عثمان
تحتضن صفحة المنتدى بجريدة «الصباح» اسماء لها وزنها فكريا وثقافيا وتحتضن توجهات فكرية وثقافية متنوعة. على سبيل المثال، نشير إلى مقالات* بحري العرفاوي الذي هو شاعر معروف في أوساط معيّنة ويعبّر فكريا عن انتماء إلى اتجاه مخصوص، وقد سجّل أكثر من مرّة ما سمّاهم «شركاء المكان» فيما كتبه، ونجده في مقاله الأخير ليوم الأربعاء (10/2/2010) بعنوان «في الديمقراطيات العربية» يختم بالتساؤل التالي، الذي هو لبّ موضوع مقاله:
«إلى أي حدّ نحن مستعدون للقبول بشركاء المكان إذا ما اختلفوا معنا في فكرة أو عاطفة أو رجاء؟ إلى أي حدّ نحتمل خصومنا ونصطبر على من أساء إلينا؟ إلى أي حدّ نحن مستعدون للإعتراف بخطإ تبين لنا عندنا وبصواب تبين لنا عند غيرنا. تحتاج الديمقراطية تواضعا للحقيقة والمصلحة لا فلسفة ودساتير فقط.
نتفق معه على أن الديمقراطية تحتاج تواضعا للحقيقة والمصلحة، لكن نتعجب تمام التعجّب من هذا المصطلح الغريب الذي يحوّل مواطني الدولة الواحدة إلى «شركاء مكان»، أي أن ما يجمعهم لا يعدو سوى مكان من الأمكنة يتشاركون في الإقامة عليه، وهكذا، وحسب منطوق هذا المصطلح، من الممكن تحويل الدولة مثلا إلى شركة بما أنها تضمّ «شركاء مكان» حسب تعبيره الغريب العجيب. وحينها بإمكان الشركاء حلّها أو تقاسمها، أو وضع أسهمها في البورصة؟
إذا كان الناس الذين يسكنون بلادا واحدة لا يشتركون في المكان وفي الزمان وفي الكثير من ضروب الإيمان، فلا يمكن أن يكونوا شركاء في أي شيء، وخصوصا في المكان، والمشترك هنا ليس، طبعا، بمعنى التطابق واهدار المختلف والمتنوع، ولكنه يتعلّق بالمشترك الوطني التاريخي والقيمي والقانوني والدستوري والتنموي، وبالمشترك المستقبلي، وفي كلمة، بكل ما تنتظم به المجتمعات الإنسانية وبه تبلور هُويتها وتنخرط في نحت كيانها، أما عن الديمقراطية، سواء كانت غربية أو هندية أو حتّى صينية أوعربية... فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يدور نقاشها أو صراعها حول الكليات، وإنما مجالها الجزئيات، والجزئيات فقط، وإلاّ تحوّلت إلى إقتتال طوائفي وتحزّبات فتن وأوبئة تستأصل «شركاء المكان» أنفسهم، بل المكان ذاته.
لا بد من النقاش ومزيد النقاش، ولابد من الإنتباه للغة النقاش، فاللغة تكشف هُوية من يكتب ويتكلم بها، وكم نحن في حاجة إلى أكثر من «منتدى» على غرار منتدى جريدة الصباح في عهدتها الجديدة.
الديمقراطية كمفردة وكدلالة لم تنشأ في فضائنا العربي الإسلامي إنما وفدت ضمن مشهد حضاري شامل رافق حملة نابليون بونابرت على مصر (17981801 )، لم تكن تلك الحملة عسكرية فقط إنما كانت حضارية بالأساس حيث تنتصر ثقافة الغالبين عادة.
تلك الحملة مثلت صدمة للوعي العربي وأنتجت سؤالا مفصليا: لماذا تقدم الآخرون وتخلف العرب؟ وكانت الإجابات ثلاث: دعوة إلى التأسي بالسلف، دعوة إلى المواءمة بين مقومات الهوية ومنتجات العقل ثم دعوة إلى التحرر من التراث كله باعتباره عائقا أمام مشاريع التقدم.
نشأت حركات إصلاحية جادة تحاول تجديد الفكر العربي والمفاهيم الدينية كي تتسع لمنتجات العقل الغربي من معارف وتنظيمات ومبادئ من جنس الحرية والعدالة والمساواة. قيم تجد لها امتدادا في الإسلام وربما أمكن قياس الديمقراطية على الشورى في بعض الوجوه... مصلحون عديدون من مختلف الأقطار العربية متزامنون ومتتابعون على امتداد أكثر من قرن تكلموا في عوامل الإصلاح وأسباب التقدم تكلم الطهطاوي (1801 1873) في ضرورة استفادة البلاد الإسلامية من «الإفرنج» « في كسب ما لا تعرفه» كما تكلم خير الدين باشا التونسي (1810 1890) في «إجراء تنظيمات سياسية تناسب التنظيمات التي نشاهدها عند غيرنا في التأسيس على دعامتي العدل والحرية الذين هما أصلان في شريعتنا» وتكلم أحمد بن أبي الضياف (1804 1874 ) في « السياسة الشرعية التي حقيقتها الفعل الذي يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه شرعٌ ولا نزل به وحي» وتكلم عبد الرحمان الكواكبي (1849 1903).
في « طبائع الإستبداد « رابطا بين المعرفة والتحرر وبين الجهل والإستعباد. تكلم محمد عبده وجمال الدين الأفغاني والطاهر الحداد وكثير ممن أفاقوا على وقع أحذية عسكر ترعبهم وتثير إعجابهم في آن فتكنولوجيا القتل بقدر ما تخيفنا بقدر ما تثير انتباهنا فتتوالد أسئلتنا عن سبب تخلفنا قبالة تقدم غيرنا.
لم يكن ثمة متسع من الوقت كي يُجيب المصلحون أولائك عن أسئلة التخلف والتقدم وكي يقتربوا من الشروط الحقيقية للإصلاح وأولها «الديمقراطية» حيث تتالت موجات الإستعمار على كل الدول العربية لتنشغل العقول عندها بسؤال المقاومة وأساليب تهريب السلاحّ!
هل كان ممكنا الإستماع إلى خطاب الديمقراطية وإلى فلسفة الأنوار مترجمة في فوهات المدافع والدبابات؟
«الديمقراطية» بما هي ثقافة سلوكية وفلسفة في الحكم هل كان يمكن إشاعتها في طقس عاصف تدك فيه الماكينة الإستعمارية كل مقومات «الدولة» وتدفع باتجاه نشأة وقود «الثورة»؟... كانت الأوطان بأشد حاجة لذوي نزعة قتالية دفاعية ولم تكن معنية بخطاب «الديمقراطية.
حين نشأت «دولة الإستقلال» كان خطاب «التنمية» هو السائد وكانت الحاجة أيضا إلى تأكيد سلطة الدولة ... «الجماهير» كانت بصدد الإحتفال الدائم بالإستقلال ولم تكن منشغلة بمطلب الحرية داخليا أو ما يُصطلح عليه « ديمقراطية» في أبعادها الفكرية والسياسية ... بعض من شركاء حكومات الإستقلال أو من النخبة الناشئة لم يكونوا ليمثلوا إحراجا إذا ما عبروا عن اختلاف أو خيبات أمل. كان الناسُ بحاجة إلى من يدفع عنهم أشباحا مما رأوا أيام الإستعمار من جوع وبرد وحر وأوبئة وخوف... لم يكن هؤلاء ليسألوا عمن يحكم أو بما يحكم.
بعد أكثر من نصف قرن من استقلال جل الدول العربية مازالت بيئتها عاجزة عن استنبات « ديمقراطية» حقيقية في اتجاهاتها الأفقية والعمودية تمتد من الأسرة إلى المؤسسة إلى الجمعيات والأحزاب إذ الديمقراطية ليست مجرد آلية انتخابية بقدر ما هي ثقافة سلوكية ونظامٌ اجتماعي بأبعاده السياسية والفكرية والإجتماعية. علينا أن نسأل بشجاعة ثقافية وبجرأة سياسية إن كانت «الشخصية» العربية قد تحررت من «عقدة الإستبداد» ؟ استبداد الفكرة واستبداد الشهوة واستبداد القرار واستبداد التدبير والتصريف واستبداد التفسير والتعريف؟.
لا جدوى من «جبرية سياسية» لا تكف عن اتهام فاعلٍ خارجي ولا تجرؤ على الإشارة أحيانا إلى حيث تفترض الإشارة... يُفترض توجيه الأصابع إلى أنفسنا أحيانا لنسأل: إلى أي حدّ نحن مستعدون للقبول بشركاء المكان إذا ما اختلفوا معنا في فكرة أو عاطفة أو رجاء؟ إلى أي حدّ نحتمل خصومنا ونصطبر على من أساء إلينا ؟ إلى أي حد نحن مستعدون للإعتراف بخطإ تبين لنا عندنا وبصواب تبين لنا عند غيرنا؟
تحتاج الديمقراطية تواضعا للحقيقة والمصلحة لا فلسفة ودساتير فقط.