الصحبي عتيق * - الضرورة العامة المؤقتة عند الإمام ابن عاشور: يرى ابن عاشور أن من مقاصد الشريعة أن تنفذ في الواقع وتحترم وتمتثل لها الأمّة، والشريعة تسلك لتحقيق ذلك مسلكين: - مسلك الحزم في إقامة الشريعة «تلك حدود الله فلا تعتدوها» (البقرة/229) وقال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ)، (البخاري). - مسلك التيسير، ويرى ابن عاشور أنّ فطرية الشريعة يعني أنّ أحكامها مبنية على التيسير، كما «أنّها تعمد إلى تغيير الحكم الشرعي من صعوبة إلى سهولة في الأحوال العارضة للأمّة أو الأفراد». «وما جعل عليكم في الدين من حرج»، «إلا ما اضطررتم إليه»، ومن هنا جاءت قواعد «رفع الحرج» و «المشقة تجلب التيسير»، وكذلك تشريع الرخصة. يقول الإمام ابن عاشور: «وقد حافظ الإسلام على استدامة وصف السماحة لأحكامه فقدّر لها أنها إن عرض لها من العوارض الزمنية أو الحالية ما يصيّرها مشتملة على شدة انفتح لها باب الرخصة المشروع». وقد اعتبر ابن عاشور «أن الفقهاء لا يمثلون إلاّ بالرخصة العارضة للأفراد في أحوال الاضطرار». وفي هذا الإطار يقسم ابن عاشور الضرورة إلى ثلاثة أنواع: - ضرورة عامة مطردة كانت سبب تشريع عام، كالسلم والمساقاة والمزارعة، (فكان حكمها حكم المباح باطراد). - ضرورة خاصة مؤقتة تحت جاء بها القرآن والسنة، ويقول: «قد اقتصر الفقهاء عليها في تمثيل الرخصة». - ضرورة عامة مؤقتة، «وذلك أن يعرض الاضطرار للأمة أو طائفة عظيمة منها تستدعي إباحة الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي... ولاشكّ أنّ اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدر من اعتبار الضرورة الخاصة»، وهذا النوع مغفول عنه لغلبة النظرة الفردية والتجزيئية والغفلة عن خطاب الأمة في منهج الاستنباط الأصولي. بل يرى أنه قد يطرأ من الضرورات ما هو أشدّ من ذلك، فالواجب رعيه وإعطاؤه ما يناسبه من الأحكام. وهذا الفقه يمكن أن يكون قاعدة تستمدّ منه الحركات الإسلامية مناهج الاجتهاد وأصول الفعل السياسي تحت أسقف غير إسلامية كالنموذج التركي والحضور الإسلامي في الغرب والتعامل مع «الشرعيات الدستورية» أو الحاكمة في العالم العربي والإسلامي، فهذه هي الضرورات العامّة المؤقتة عند الإمام ابن عاشور. يقول الونشريسي: «الصواب غير منحصر في العزيمة، وإن كان الأفضل الأخذ بالعزيمة تورّعا واحتياطا واجتناباً لمظان الرّيْب والتهَم»، ويقول الإمام عز الدين ابن عبدالسلام «إنّ المصلحة العامة كالضرورة الخاصة». التأصيل الفقهي والحركي: القرضاوي نموذجا العلامة القرضاوي جمع بين الفقه والمقاصد والدعوة والعمل الحركي السياسي وهذا يندر بأن يجتمع في شخص واحد، وهو يُعدّ في قول الشيخ راشد الغنوشي «من أهم إن لم يكن الأهم على الإطلاق من بين رموز الإسلام الفقهي والحركي في التعبير عن ضمير أمة تعيش حالة من اليتم في غياب مشروعية إسلامية عليا ذات مصداق في النطق باسم أمة الإسلام... وهو شيخ الإسلام في هذا العصر»، (انظر المداخلة الممتازة للشيخ راشد الغنوشي في ندوة أصول القرضاوي، الدوحة 17 صفر 1431). قام العلاّمة يوسف القرضاوي ببلورة معاني الوسطية بتكامل وعمق فهو يعتبرها من أبرز خصائص الإسلام ذاكرا الكثير من مظاهرها: وسطية الإسلام في العبادات والشعائر، وسطية الإسلام في الأخلاق، وسطية الإسلام في التشريع... ويعبر عنها أيضا بالتوازن أي التوسط أو التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين، بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير، ويطرد الطرف المقابل، ويذكر أمثلة من ذلك: الربانية والإنسانية، الروحية والمادية، الأخروية والدنيوية، الوحي والعقل، الماضوية والمستقبلية، الفردية والجماعية، الواقعية والمثالية، الثبات والتغير، وما شابهها ومعنى التوازن بينها: أن يفسح لكل طرف منها مجاله، ويعطي حقه بالقسط أو ب «القسطاس المستقيم»، بلا وكس ولا شطط، ولا غلو ولا تقصير، ولا طغيان ولا خسران، مستدلاّ بقوله تعالى: «والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان»، (الرحمن: 7-9). (القرضاوي، الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم) والوسطية عند القرضاوي مدرسة في المقاصد بين «المعطلة الجدد»، الذين يزعمون أنّ الدين جوهر لا شكل فيسرفون في تأويل آيات الكتاب فيلتقي مع الشيخ ابن عاشور الذي يقول: «وهو رأي كل قاصد لإبطال الشريعة» و «الظاهرية الجدد»، الذين يقفون عند ظواهر النصوص بمعزل عن علل الأحكام ومقاصد الشرع وهم «الذين يحصرون مظان العلم في الظواهر والنصوص «كما يذهب ابن عاشور والشاطبي. ويدعو الشيخ القرضاوي إجمالا إلى التركيز على خمسة أنواع من الفقه ضمن تصور متكامل يجمع بين الفقه الجزئي والقواعد الأصولية والمقاصد والفقه الحركي بتعقيداته وخلافاته الكثيرة وهي: 1 - فقه المقاصد ويراد بالمقاصد: الغايات والعِلَل والحِكَم التي تناط بها الأحكام الشرعية، فيما يتصل بالعقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق والآداب. وتتمثل مرتكزات المدرسة الوسطية عند الشيخ القرضاوي فيما يلي: • البحث عن مقصد النص قبل إصدار الحكم. • فهم النص في ضوء أسبابه وملابساته. • التمييز بين المقاصد الثابتة والوسائل المتغيرة. • الملاءمة بين الثوابت والمتغيرات. • التمييز في الالتفات إلى المعاني بين العبادات. والمعاملات (القرضاوي، مقاصد الشريعة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية). 2- فقه الأولويات ويُقصد بفقه الأولويات: «العلم بالأحكام الشرعية التي لها حق التقديم على غيرها بناء على العلم بمراتبها وبالواقع الذي يتطلبها»، فتقديم حكم على آخر يكون بناء على: فقه بأحكام الشرع وبمراتبها، وبالأهم منها من المهم، وبالقطعي منها من الظني، وبالأصل منها من الجزء. فقه بالضوابط التي يتم بناء عليها ترجيح حكم على آخر في حالة التزاحم أو في غير حالة التزاحم. فقه بالواقع والظروف التي يتحرك فيها الداعية. (د/محمد الوكيلي، فقه الأولويات - دراسة في الضوابط). 3- فقه السنن الكونية. 4- فقه الموازنات. 5- فقه الاختلاف (انظر دراسة أحمد الراشد حول الوسطية عند العلامة القرضاوي، إسلام أولاين). وهذه الأنواع تشتمل على فقه جليل يساهم في الوضوح النظري وتجلية الرؤية أمام العاملين في حقل الدعوة والعمل الإسلامي في الفكر والعمل. *كاتب وباحث من تونس