"السنة السياسية" مصطلح شائع في تونس، لكنه فقد شيئا من دلالته عندما امتدّ الفِعل السياسي ليكتسِح أيضا عُطلة الصيف التي شهِدت هذه السنة أحداثا هامة، مثل انعقاد المؤتمر الخامس لحزب التجمّع الدستوري الديمقراطي الحاكم، والذي أعلن في افتتاحه الرئيس بن علي عن ترشّحه لدورة خامسة. كما مثل خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة العشرات من شباب منطقة الحوض المنجمي، التي شهِدت اضطرابات واسعة منذ مطلع السنة الجارية. فكيف يبدو المشهد السياسي حاليا في تونس قبل حلول الذكرى 21 لاستلام الرئيس بن علي السلطة في البلاد، وفي مطلع سنة انتخابية بامتياز؟ مؤشرات.. وتساؤلات ثلاث مؤشرات لفَتت نظر المُراقب وجعلت البعض يعتقد بأن السلطة قد بدأت تحرِص على أن تجنّب السنة الجارية مظاهِر الاحتقان التي لازمت الحالة السياسية منذ سنوات. أولا، الدعوة التي وجّهتها الحكومة إلى مختلف الأحزاب القانونية (الممثلة في البرلمان وغير الممثلة)، بدون إقصاء للمشاركة في الاستشارة الوطنية حول التشغيل. ورغم أن الحزب الديمقراطي التقدُّمي قد اختار المقاطعة احتجاجا على تلقِّيه الدّعوة قبل انطلاق الفعاليات بوقت قصير جدا، إلا أن ذلك لا يحجب رمزية توجيه الدعوة إلى حزبٍ معارض شهدت علاقاته بالنظام توتُّرا شديدا، ولا يزال يُصرّ أمينه العام السابق على حقِّه المبدئي في الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة، وتطعن قيادته في شرعية ترشَّح الرئيس بن علي لولاية خامسة وترفع قواعده شعارات من بينها "حريات حريات لا رئاسة مدى الحياة". ثانيا، شهِدت الأحكام الأخيرة التي صدرت في حق المُحالين على المحاكم في قضايا أحداث "الحوض المنجمي"، التي بلغت ذِروتها في 6 يونيو الماضي، تراجعا في حِدّتها وحجمِها، مقارنة بالأحكام الثقيلة والقاسية التي صدرت في وقت سابق، مثل الحُكم الابتدائي على الناشطة السياسية والحقوقية السيدة زكية الضيفاوي بثمانية أشهر سجنا لمجرّد تضامنها مع زوجات المعتقلين، وهو الحُكم الذي فاجأ الأوساط النسائية والسياسية، قبل أن يخفض إلى أربعة أشهر و10 أيام قضت أغلبها في الاعتقال حتى الآن. هذا التراجع في حجم الأحكام جعل المحامين يتوقَّعون احتمال صُدور عفو رئاسي قريب يطوي آثار الأحداث العنيفة التي شهدتها المناطق المجاورة لمدينة قفصة، لكن في مقابل ذلك، لا يزال الجميع ينتظر ما الذي سيحصل في محاكمة القيادي النقابي (عدنان الحاجي) ورفاقه، ليَقيسوا من خلالها النوايا الفعلية للسلطة. ثالثا، تمَّ خلال الأشهر الأخيرة تسوِية ملفَّات دُفعة أخرى من اللاجئين الإسلاميين، الذين اختاروا العودة إلى الوطن، بعد غربة دامت سنوات طويلة. ويبدو أن هناك عناصِر أخرى تسلمت أو تنتظر تسلُّم جوازات سفر تونسية لزيارة عائلاتهم في تونس قريبا، مثل السيد أحمد المناعي المقيم بفرنسا (عاد في شهر أكتوبر) أو مرسل الكسيبي، صاحب صحيفة (الوسط) الإلكترونية المقيم بألمانيا، الذي يتعرّض لحملة واسعة هذه الأيام من قِبل مَن لا يشاطرونه رِهاناته السياسية، هي جُزء من جدل ساخن انتكَس في الفترة الأخيرة وتحوّل إلى نوع من الثلب والتجريح الشخصي. ويدور هذا الجدل داخل أوساط الإسلاميين منذ عدة أشهر، حول شرعية الدعوة إلى المصالحة مع النظام، حيث لا يزال الجناح الملتَفّ حول قيادة حركة النهضة ينفي وجود أية مؤشرات جدية حول استعداد السلطة للقبول بمبدإ المصالحة، ويشيع حالة من التشكيك في الدّوافع التي جعلت البعض يقرِّرون مخالفة التعليمات ويختارون أسلوب التسوية الفردية. وفي مقابل ذلك، تستمر الأجهزة في التعامل بانتقائية مع ملفَّات الراغبين في العودة، وهي انتقائية لا تستند، فيما يبدو، على مقاييس واضحة، حيث لا تزال الأسباب التي تقِف وراء رفض طلب السيد محمد النوري أو عدم تمكين الدكتور عبد المجيد النجار، من جواز سفر، رغم أنه تقدَّم بطلب في ذلك منذ أكثر من سنة، وكِلاهما يتمتَّع بمكانة هامَّة في أوساط حركة النهضة، غير مفهومة. الأمينة العامة للحزب الديمقراطي التقدمي مية الجريبي ونجيب الشابي، الذي أعلن منذ عدة أشهر عن ترشحه للإنتخابات الرئاسية المقبلة احتمالات ضعيفة.. وترقُّب! في كل سنة، ومنذ عشرين عاما، يعيش الوسط السياسي مع مطلع شهر أكتوبر حالة من الترقُّب، تكثُر فيها التكهنات بما يُمكن أن يعلنه الرئيس بن علي بمناسبة ذكرى السابع من نوفمبر. ورغم الخيبات المتتالية التي أصيب بها البعض في مناسبات سابقة، إلا أن حالة الانتظار والتكهُّن تعود لتتلبَّسهم من جديد، بل حتى أولئك الذين أعلنوا يأسهم من النظام، بقى الشك يساوِرهم في قرارة أنفسهم، حول احتمال ضعيف بأن تتَّخذ السلطة قرارات إيجابية تُخرِج المناخ السياسي العام من الدوران في نفس الحلقة منذ سنوات طويلة. كل ذلك مؤشر في حدّ ذاته عن عدم قُدرة المعارضة على افتكاك المبادرة وفرض وجودها كقوة موازية. فحتى مبادرة 18 أكتوبر يعتقد الكثيرون بأنها دخلت منذ فترة، حالة من الموت السريري. ولكن ما الذي يُمكن أن تنتظر النُّخب السياسية حدوثه في هذه الذكرى؟ يعتبِر الكثيرون أن المنطق السياسي يقتضي أن يعمد النظام إلى إعطاء دُفعة قوية للحياة السياسية، نظرا لكونه مُقبل على تنظيم انتخابات رئاسية، يُفترض أن يتوّج بها الرئيس بن علي مسيرته السياسية، حيث سيكون سنُّه مع نهاية عام 2014 في حدود 77 عاما، في حين أن الدستور الذي تمّ تعديله وعُرض على الاستفتاء (2002)، يشترط في كل مترشح لمنصب رئاسة الجمهورية أن لا يتجاوز عمره 75 عاما. وفي هذا السياق، يستشهِد هؤلاء بعدد من الحكَّام والقادة الذين تركوا بصْمة في تاريخ شعوبهم، غالبا ما يُسيطر عليهم في السنوات الأخيرة من حُكمهم، هاجِس البحث عن أفضل الصِّيغ التي تحمي استقرار بلدانهم وتحقق انتقالا هادئا وسلميا للسلطة بعد تخلِّيهم عنها. وفي تونس، يعتقد كثيرون بأن عهد الرئيس بن علي قد شهد عديد المكاسب وأن الخلاف الجوهري بينه وبين الذين عارضوه ولا يزالون، في الداخل أو في الخارج، يستنِد بدرجة أساسية على كيفية إدارة الشأن العام بالبلاد، وتحديدا في انخفاض سقف الحريات، وبالتالي، فإن أي خُطوة نوعية قد يقدِم عليها في هذا المجال، ستتلقَّفها الأوساط المختلفة وتتفاعل معها بإيجابية واسعة. إجمالا، يُمكن القول أن أربع قرارات لو اتُّخذت خلال الفترة القادمة لكانت – بنظر كثيرين - كافية لإفراز حالة نفسية وسياسية مختلفة عمَّا هو عليه الحال الآن : أولا، إطلاق سراح بقِية المساجين السياسيين من كوادِر حركة النهضة، الذين طال اعتقالهم كثيرا ولم يعُد يوجد أي مُبرِّر لمزيد تقسيط الإفراج عنهم، خاصة بعد أن أثبت العفو عمَّن سبقهم بأنهم لم يشكِّلوا أي خَطر على النظام أو على الأمن العام، بل إن العديد من قادتهم خرجوا من السِّجن برغبة قوية في تطبيع العلاقة مع السلطة والتعامل بإيجابية مع أي يد تمتَد نحوهم. ثانيا، تمكين السيد منصر الرويسي، رئيس الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية من الصلاحيات التي يحتاجها، للتوصل إلى فكّ مُعضلة الرابطة التونسية للدِّفاع عن حقوق الإنسان، وذلك بعد ثمانِ سنوات من التَّجميد والمحاصرة، إن مصلحة جميع الأطراف أن يُحسم هذا الإشكال خلال الأشهر الأربعة القادمة، والسيد الرويسي يتمتَّع بالمؤهلات التي تجعله يُدير مفاوضات ناجحة. كما أن أوساط الرابطيين مدعُوّة بدورها لتسهيل مثل هذه المهمَّة وأن يدفعوا في اتِّجاه تسوية التباينات الداخلية، حِرصا على إنقاذ هذه المنظمة التاريخية من مرض التحلُّل التدريجي الذي أصابها وأن يساعدوا قيادة الرابطة على التوصُّل إلى تسوية، قد لا تحقق كل ما يرغبون فيه. ثالثا، رفع سقف حرية التعبير والصحافة والتخلِّي عن القائمة السوداء، التي تتضمَّن كل الذين مُنِعوا من دخول مبنى الإذاعة والتلفزيون منذ مطلع التسعينات. هناك من يعتقد بأن السَّماح بتعديل المشهد الإعلامي السائد واقتناع المشرفين على رعاية هذا المشهد، بأن فتح شبابيكه لاستقبال مجرى الهواء، ليس فيه أي تهديد للنظام الذي يتمتَّع بقاعدة اجتماعية معلومة، وهو قرار يتطلَّب إرادة سياسية تُخفِّف من درجة الخوف المتضخِّمة لدى المسؤولين على المؤسسات الإعلامية الرسمية، وتُشعرهم بأن السلطة ستستفيد من أي انفتاح إعلامي قبل المعارضة. رابعا، دفع المسار في اتِّجاه انفتاح أوسع على أطراف المعارضة، ومنظمات المجتمع المدني المغضوب عليها، وذلك من خلال الاعتراف بمزيد من الأحزاب السياسية والجمعيات. ومن ناحية أخرى، توفير شروط تنظيم حملة انتخابية جدية وحُرة نسبيا وأن تفضي هذه الحملة بالنسبة للانتخابات التشريعية إلى تمكين بعض الكوادر، التي تنتمي على سبيل المثال، إلى الحزب الديمقراطي التقدّمي أو حزب التكتُّل، من أجل العمل والحريات من دخول البرلمان، خاصة إذا اختار الحزبان، بالتنسيق مع حركة التجديد، تشكيل جبهة انتخابية مُوَحَّدة، مثلما دعا إلى ذلك السيد مصطفى بن جعفر، إذ يعتقد الراغبون في تحقيق ذلك، أن انتخابات 2009 لن تختلف عن سابقاتها إذا لم تُسفر عن رفع الحظر على ما يسمَّى بالأحزاب الاحتجاجية، التي تتمتع بالاعتراف القانوني، أي التقدّم خطوة جدية في نفس المسار الذي انتهجته السلطة منذ عام 1994، والذي يهدِف إلى إدماج مُختلف الأحزاب ضِمن النشاط المؤسساتي، الذي يهيمن عليه الحزب الحاكم. أما النِّداء الذي وجَّهه المحامي الديمقراطي العياشي الهمامي لتشجيع كل من الأمينة العامة للحزب الديمقراطي التقدمي والأمين العام لحركة التجديد على الترشح، ولو بصفة رمزية للانتخابات الرئاسية، فإن اعتبارات عديدة قد تَحُول دون الاستجابة له. توقُّعات النُّخب والأوضاع الصعبة.. ومصلحة النظام هذا هو الإطار السياسي العام، لكن الصورة ستبقى منقوصة إذا لم يتِم استحضار الوضع الاجتماعي المحلِّي وربطه بالتداعيات المحتملة للأزمة المالية والاقتصادية العالمية. وإذا كانت الحكومة قد وجَّهت خطابا مُطمْئِنا للتونسيين بالتأكيد على أن الاقتصاد التونسي لم يتأثر بالزلزال العالمي، فإن خبراء البنك الدولي قد أعلنوا بوضوح بأن دول المغرب لن تكون في مأمن الأزمة، وتوقَّعوا بأن تشهد هي أيضا، مثل كامل دول العالم العربي، حالة من الرّكود. وبقطع النظر عن ذلك، فإن الوثيقة التي وزّعتها الحكومة على المشاركين في الاستشارة الوطنية حول التشغيل التي نظمت يوم 14 أكتوبر الجاري، تميَّز مضمونها مُقارنة بوثائق أخرى رسمية بلغة صريحة، حيث تضمَّنت اعترافا لا لبس فيه بوجود أزمة حقيقية في مجال التشغيل، وأن أوضاع خِرِّيجي الجامعات مرشَّح لمزيد من التَّفاقم والتعقيد خلال السنوات القادمة، حيث قد تصِل نسبة العاطلين منهم إلى 26% مع حلول سنة 2016، إن لم تُبذَل جهود ملموسة خلال السنوات القادمة، وبالتالي، فإن الجهود التي تقدَّم في مجال التعليم والتضحيات الضخمة للأسر في سبيل تدريس أبنائها، لا تجد في المقابل نتائج ترتَقي إلى الحدِّ الأدنى المأمول، كما أقرّ التقرير أيضا بوجود تفاوُت بين جِهات البلاد، محذِّرا من تداعِياته السلبية. هكذا يتبيَّن، أن مصلَحة النظام من جهة، (وهو يستعدّ لإدارة سنة سياسية انتخابية بامتياز مع سنة اجتماعية ستكون صعبة)، والضغوط الاقتصادية الواردة من مُحيط إقليمي ودولي مُضطرب من جهة أخرى، عامِلان هامَّان يدفعان النُّخبة التونسية إلى توقُّع احتمال حُدوث انفراجٍ سياسيٍ، وإن كان محدودا. لكن مع ذلك، فقد أثبتت السنوات الماضية بأن رياح الحُكم لم تجِرِ في الغالب بما تشتهي السفن المعطَّلة لمعارضةٍ تتأرْجَح بين العجز والأمل والإحباط.