أعلنت قناة الديمقراطية أنها تعتزم إنشاء برنامج عن" تونس الديمقراطية" ضمن ما أقرته من تعديلات في برامجها لشهر سبتمبر القادم ، و لا بد أن التونسيين قد استبشروا خيرا عند سماعهم بقرب انطلاق هذا البرنامج الأسبوعي الذي سيتناول مختلف أوجه الحياة السياسية في بلدهم و يغطي حقيقة التحولات التي يشهدها في إطار التنافس بين مختلف الأطراف الفاعلة . علما بأن التونسيين يملكون تجربة مع هذه القناة عندما كانت تبث برنامجا عن المغرب العربي كل يوم أحد يفتح المجال أمام بعض رموز المعارضة ليخاطبوا الرأي العام الوطني بما يرونه مناسبا للتصدي لرياح الدكتاتورية و العمل من أجل أن يترسخ الوعي الديمقراطي لدى أفراد شعبهم و يقطع الطريق أمام محاولات التسلط و التدجين و الاحتواء ... و قد تناولت الوسط التونسية هذا الموضوع في شخص الأخ مرسل الكسيبي الذي حرص على الترحيب بهذا البرنامج المقترح و الدعاية الإيجابية له باعتباره سيفتح نافذة مغلقة ، ويقدم للمشاهدين إعلاما عن تونس يدخلها مجال المساهمة في صنع الغد العربي المشترك و يعيد للنخبة التونسية إشعاعها في محيطها العربي و الإسلامي ،و تعرض حينئذ إلى الصعوبات التي ستعترض مثل هذا لبرنامج معلقا أمله على صاحب المشروع الإعلامي الدكتور محمد الهاشمي الحامي بما له من أهلية و حرفية ، في تجاوز تلك العقبات و القدرة على سلوك طريق ثالث يقرّب بين الفرقاء فلا يسقط في الدعاية الرخيصة و لا يتبنى الخطاب العدمي الذي لا يجد مدخلا للحديث عن تونس إلا باب الحريات السياسية و آثار المواجهة بين السلطة و حركة النهضة في بداية التسعينات . نحن في الوسط التونسية ندرك أنه ليس من السهل على قناة الديمقراطية أن تقرر تناول الأحداث في تونس ضمن برنامج أسبوعي على النحو الذي تفعله مع بلدان عربية أخرى قريبة أو بعيدة لأن الحديث عن تونس لازال خاضعا لمعادلة داخلية مختلة تعطي السلطة حرية التصرف في الممتلكات و الأرواح و تسمح للتجمع الدستوري بأن ينفرد بالساحة الوطنية و الترويج لخطابه دون حسيب أو رقيب غير قلة من الناس لا يملكون من وسائل الانتشار إلا هامشا ضيقا مرتبطا بحرص رسمي على المحافظة على ما يبرر رفع شعارات الديمقراطية و دولة القانون و المؤسسات . فعندما يختل التوازن السياسي في بلد ما بين السلطة والمعارضة بما يسمح لفريق أن يتسلط على الآخر فإن الحوار بين الطرفين إن وجد فلا بد أن يخضع لهذه المعادلة و يصبح حوار طرشان لا فائدة ترجى منه ، وبالتالي فنحن نتفهم توجه القائمين على البرنامج المقترح بالبحث عن شخصيات تمثل الطرفين و تكون قادرة على الحد الأدنى من التواصل و الاستعداد للتحاور ، و تملك القناة تجربة مع أسماء مثل السادة برهان بسيس و سمير عبدالله و بوبكر الصغير ... وهؤلاء كانوا قد برهنوا عن مرونة في تناول الملف التونسي تشكل تميزهم عن الخطاب الرسمي وتؤهلهم للقيام بدور حلقة الوصل بين الفرقاء ، لكنه لوحظ في الفترة الأخيرة أن تطورا قد طرأ على الاتجاه الذي تتبناه هذه الأسماء يجعلهم أقرب إلى تبني خطاب السلطة بالجملة من كونهم محاورين معتدلين يتفهمون هموم المعارضة و يبحثون لأنفسهم عن دور للتوسط بينهم وبين السلطة ، بل أن أحدهم قد عبر في مشاركة أخيرة جمعته بالأستاذ مرسل الكسيبي إلى الإعلان بوضوح عن تبنيه للتصور الذي تقدمه السلطة عن تونس ولم يتورع حتى عن المطالبة بغلق قناة الديمقراطية في وجوه المعارضة .؟؟ كما أن النموذج الآخر من هذه الشخصيات التي ظهرت في هذه القناة للحديث عن تونس وهو الأستاذ برهان بسيس قد عرفناه في المدة الأخيرة مدافعا صلبا عن خيارات السلطة في استئصال الحركة الإسلامية ذات الرؤية الوسطية و داعية لتواصل الحصار في حقها مرددا "لأغاني ومسلسلات " كان ينتظر أن يتم التخلي عنها نهائيا مع ما تشهده الأمة العربية من هجمة شرسة تجلت في لبنان و فلسطين والعراق و أظهرت تقاربا يعتد به بين الوطنيين العرب من تيار الاعتدال و الوسطية الإسلامي و فصائل التيار اليساري المناضل . و نشك أن يكون برهان بسيس و أمثاله يعبرون بما يكتبون عن مشاريع سياسية أصيلة تنبع من قراءتهم للواقع من حولهم و نرجح أن تكون إملاءات تصدر من محلات وزارة الداخلية أو تعبر عن انتهازية سياسية يراد بها المحافظة على مواقع تدر على أصحابها مالا وفيرا أو توفر لهم حظوظا للوصول إلى مناصب مغرية . و مثل هؤلاء لا يمكن لهم أن يلعبوا دورا إيجابيا في التقريب بين المعارضة و السلطة وهو الدور الذي يمثل الشرط الأساسي لنجاح أي حوار ديمقراطي عن تونس ... و الملخص أن هذه الأسماء من الصعب عليها أن تشارك في مثل هذه الملفات و إن شاركت فلن تكون قادرة على بلورة الخطاب الذي سيتقدم بتونس نحو تحقيق الأمل المنشود في خلق حوار جدير بالمتابعة عن تونس . أما من ناحية المعارضة فهي قد تعودت على انسداد الوسائل الإعلامية ذات الانتشار الواسع في وجهها مما جعلها تنساق كلما سنحت لها الفرصة للتعبير عن رؤاها الى اثارة كم هائل من المظالم والتجاوزات و الجرائم التي تسلط عليها و بالتالي يضيق المجال أمامها للتعريف ببرامجها و تصوراتها و أفكارها وتسقط في ممارسة خطاب عدمي لم يعد يثير المشاهد و لا يسمح لها بالتأثير عليه وكسبه لصفها ... ليس معنى هذا أن ليس هناك أسماء معارضة مؤهلة للمشاركة في حوار من النوع الذي يحتاجه المجتمع التونسي فنحن نظن أن هؤلاء كثيرون ولكن المعضلة في الوصول إلى محاورين قريبين من السلطة و يتمتعون بقدر كاف من حرية التعبير و الحركة و المبادرة . وليس مثل هذا فقط يشكل عوائق أمام إنجاح برنامج من هذا النوع بل هناك صعوبات أخرى لا تقل أهمية لعل في مقدمتها ما يلاحظ من سيطرة أطراف غير سياسية على الملف السياسي في تونس من مثل الشخصيات المقربة التي تملك نفوذا واسعا وهى مدفوعة بهواجس مختلفة ومحكومة بالرغبة في تحقيق مصالحها الضيقة حتى و إن تعارضت مع مصالح البلاد و مستقبلها ، إضافة للدور الحاسم الذي تلعبه الأجهزة الأمنية في صنع القرار التونسي وهي دوائر ليست مؤهلة لتغيير مواقفها إلا بعد تغيير حقيقي في موازين القوى السياسية . في الأخير هناك حساسية السلطة بمختلف مستوياتها تجاه الملف الإسلامي و الذي يشكل أحد المفاصل الرئيسية الذي يحتاج إلى مبادرات سياسية حاسمة من شأنها أن تحقق الانفتاح الحقيقي و ليس هناك مؤشرات تونسية في هذا الاتجاه في الوقت الحاضر ... هذا إلى جانب مسائل أخرى تطرق إليها بعض كتاب الوسط في مناسبات سابقة نذكر من بينهم الدكتور سليم بن حميدان و الأستاذ مرسل الكسيبي ... 2 ملفات حيوية يمكن التحاور حولها إذا كان نجاح البرنامج المرتقب في فتح حوار صريح بين الفرقاء غير وارد بسبب الضغوط الكبيرة التي تلوح في الأفق و بسبب ما شرحناه فيما تقدم فلا أقل من إقرار برنامج حواري عن تونس يتناول ملفات في الفكر السياسي ، تحلل طبيعة المجتمع التونسي و تكشف عن مواطن القوة و الضعف فيه ، وتاريخ الدولة التونسية الحديثة التي أنشأها بورقيبة باخفاقاتها و نجاحاتها بما يوفر مجالا رحبا للتحاور بين النخب التونسية و يحقق هدفا كبيرا في الوصول إلى تواصل و تعارف بين نخب الخارج ونخب الداخل و يسمح للمشاهدين بالاطلاع على المشاريع المختلفة التي يطرحها المثقفون التونسيون و قد يتحقق بها هدف التقريب بين وجهات النظر التي سوف تنعكس إيجابيا على الحياة السياسية و قد تؤدي إلى نضج الشروط التي في ظلها يمكن فتح حوار صريح في المستقبل ...