"صابر مراد نيازوف" واحد من قادة بلدان العالم الاسلامي الذين تاهوا عشقا في الذات حتى بلغوا مرتبة من العلو و"الشاهنشاهية" جعلتهم يمارسون من الغرائب والعجائب مالا يصدقه عقل أو يخطر على قلب بشر ! لم يسبق لي أن تعجبت في مسيرة قائد ينتمي الى منطقة الهلال الخصيب ,كما تعجبت عندما جلت متأملا في مسيرة الرئيس "نيازوف" الذي رحل عن هذه الدنيا يوم الخميس 21 ديسمبر 2006 . لنبدأ القصة من العنوان حيث حمل البطيخ الأصفر ذي الرائحة الزكية والحجم الكبير اسم تركمان باشي وهو الكنية المحببة للقائد التركمانستاني صابر نيازوف ! القسم لدى الأطباء تغير هو الاخر ليصبح مخالفا لما هو متعاهد عليه في بلدان العالم وليأتي وفق رؤية قيصرية لم نعرف لها مثيلا في عالمنا المعاصر " "بعد تخرجي طبيبا وخلال ممارسة مهنتي اقسم بان احترم مبادىء صابر مراد تركمان باشي". مراحل الحياة البشرية وتقسيماتها التقليدية ,تغيرت هي الأخرى لتفصل على مقاس القائد الملهم والرئيس الذي لم تطأ الأرض مثله حاكما مسلما منذ مئات السنين ,حيث أخضعت هي الأخرى لرؤيته الملهمة لتصبح مفصلة على النحو الاتي : المراهقة في سن ال25 وبعد سن الرشد تأتي مرحلة "نبوة" بين عامي 49 و61 سنة ومرحلة "الهام" بين عامي 61 و73 في حين لا تبدأ مرحلة الشيخوخة قبل 85 عاما. الرئيس "العظيم" تركمان باشا" أو صابر نيازوف رحل ليترك وراءه تمثالا ذهبيا في العاصمة عشق أباد يدور في حركة غير متوقفة مع حركة كوكب الشمس ! أما صوره العملاقة فهي الأخرى تملأ كل الشوارع والساحات الكبرى للعاصمة التركمانستانية وغيرها من مدن البلاد ... أسماء الشهور وأيام الأسبوع هي الأخرى تغيرت لترضي شعور العظمة في القائد الراحل الذي أبى الا ان يحمل الشهر الأول من السنة اسم تركمان باشي والشهر الرابع اسم قربان سلطان وهو اسم والدته ! لأب التركمان أو تركمان باشي باللغة التركمانستانية ,كتاب مقدس أيضا ضمنه رؤاه السياسية والفكرية والروحية وحمل تسمية "روخناما" ,وفرض تدريسه في البرامج والمقررات التعليمية على كل الطلاب والموظفين ! وفي شهر مارس المنقضي, أعلن الرئيس الراحل ان كل من يقرأ "روخناما "ثلاث مرات سيكتشف ثروة روحية وسيزداد ذكاء وفطنة وسيكون مصيره الجنة". وفي 2005 وضع صاروخ روسي نسخة من هذا الكتاب في المدار. والله انها لقصص أغرب من الخيال ,ولكن يبدو انه في عالمنا العربي والاسلامي لم يعد هناك شيء يستغرب ,ولاسيما اذا تعلق الأمر بقادة بلدان استسلم فيها الرأي العام الى قدره المحتوم وهو ترك غرائب الأمصار الى عجائب النظار !,دون تحريك اي ساكن امام بطش الالة الجهنمية لأنظمة حكم تعودت على سحق أي نفس احتجاجي أو معارض... ولاعجب حينئذ أن تصرح سيدة تركمانستانية غداة الاعلان عن موت هذا الزعيم "الفذ" الذي فرض على شعبه عبادته وتقديسه بما يلي "لم انم طوال الليل. المسألة الاساسية هي معرفة ماذا سيجري بالنسبة لي ولعائلتي ولبلدي" نعم من حق هذه السيدة وغيرها من سادة وسيدات هذا البلد الاسلامي الثري بما احتواه باطن ارضه من ثروات بترولية عظيمة أن يغادر النوم جفنيه اذا ما علمنا أن تركمان باشي صرف على تشييد حديقة طائر البطريك 18 مليون دولار,وملايين الدولارات الأخرى على قصر للتزحلق على الجليد في قلب الصحراء ! وأغرب من الخيال جملة من القرارات الأخرى الصادرة عن هذا القائد "الملهم" نلخص فحواها في هذا الاقتباس الذي تناقلت فحواه العديد من وكالات الأنباء حيث جاء فيه مايلي :غلق كافة المستشفياات فيما عدى مستشفيات العاصمة عشقباد ,واعلان كافة الامراض المعدية بما في ذلك الايدز والكوليرا خارجة عن القانون والامر بعدم المجيئ على ذكرها. وفرض قواعد جديدة في مجال التعليم حيث أعلن بطلان شهادات كافة المعاهد الاجنبية التي تم الحصول عليها في السنوات العشر الاخيرة واغلاق جميع المكتبات في القرى لان سكانها من الاميين.وفي مجال الثقافة حظر نيازف على الباليه والاوبرا والسيرك وحل فرقة الرقص الوطنية... ولايملك المرء أمام قراءة وسماع اخبار مثل هذا القائد التركمانستاني "الملهم والعظيم" الا أن يشعر بشساعة مخيال الطبقة السياسية في عالمنا الاسلامي حيث يتحول قادة بشر الى أنبياء جدد أو الهة دنيوية تمتلك الكتب المقدسة التي تستحق حملها في رحلة صاروخية الى المدارات كما تستأهل التماثيل الذهبية التي تتحرك باتجاه المدار الشمسي ,ولست ادري ان كانت مثل هذه الصنائع وليدة الدهاء المفرط والذكاء الحاد لدى الحاكمين في مقابل جهل الشعوب المتقع وسذاجة شرائح واسعة من المحكومين ,أم أنها أقدارنا التي تلاحقنا نحن معشر المسلمين نتيجة تخلف المؤسسة السياسية الحاكمة وسهولة تجنيد واشتراء الخدم والحشم في زمن علا فيه بريق العملة الصعبة ودندن فيه صوت القيمة النقدية المقدسة على منطق قيمية القيم ! أسئلة كثيرة يطرحها علينا رحيل تركمان باشي ,الذي اظن أن كثيرا من بلادنا المشرقية تحتضن الكثير من تلاميذه وطلابه المتواجدين في طبقة الحكم أو في طبقة مشاريع الحكم حيث ان تدجين الجماهير واضطهاد النخب الواعية وضرب القيم ونشر ثقافة الاستحمار وتكريس البلاهة والاغراء ومخدرات القلب والعقل والجسد من شأنه أن يفرز طبقة الحكام الذين لايحدهم قانون ولامخيال ولا توقعات ولافنون في الاستقراء العلمي والسياسي ... اننا أمام ظاهرة سياسية تخرج عن القوانين والعلوم الحديثة وانها فعلا ظواهر قد تحتاج الى العرافين والعزامين وقارئي الفناجين حتى نستطيع فك طلاسمها !,فما حيلتنا سادتي في زمن انهارت فيه كل القيم الجميلة وتركت فيه الكتب المقدسة الحقيقية ونبذت فيه طاقات العلم وألقيت فيه أموال الشعوب والبلدان بين أيادي عابثة وغير أمينة ,ففتحت بذلك أبواب السلاطين والقصور وغلقت ابواب قلاع العلم ومسالك الجنة الحقيقية ؟!... اعذروني سادتي ان كنت متشائما بعض الشيء أمام هول مافعله الراحل تركماني باشا ! حرر بتاريخ 22 ديسمبر 2006 *كاتب واعلامي تونسي ومدير صحيفة الوسط التونسية :