لعل الأمر ليس بالكثير حتى يصبح ظاهرة، ولكنه يوحي على قلته بأن شيئا قد حدث داخل الصف الإسلامي، وبدأت إرهاصاته تتسع ولو ببطئ، ولن يكون حديثنا عنه استعظاما له ومبالغة فيه، ولا استخفافا به وتصغيرا لشأنه، ولكنه يندرج في باب البحث والتفكر وتشخيصه ومحاولة تبيان الأسباب الكامنة وراءه، رغم تشعبها وفردية نشوئها في بعض الأحيان وشخصية انبعاثها. إن المتابع لتطورات المشهد السياسي التونسي عموما والخطاب الإسلامي خصوصا يلاحظ بروز خطاب ليبرالي جديد تحمله أقلام كانت إلى مدة غير بعيدة داخل الصف الإسلامي حركيا أو فكريا، وإذا كان هذا الخطاب فرديا ممثلا خاصة في كتابات الأخ الفاضل الدكتور خالد شوكات، فإن ما كتبه هذه الأيام الأخ الكريم الأستاذ مرسل الكسيبي في تبنيه للطرح الليبرالي في مشواره السياسي، يؤكد هذا التوجه الجديد ويطرح تساؤلات عميقة وجذرية حول الأسباب والمسببات. لقد مرّ على الحركة الإسلامية الإصلاحية حين من الدهر، نتيجة عوامل داخلية وخارجية، تواجد فيها العديد من الطاقات خارج فضائها، نذكر منها [[1][1]] : الطاقات المعطلة، وهي التي لم يقع استثمار قدراتها المعرفية المتفجرة، فآثرت الانزواء والانتظار، والانسياق وراء طلب الرغيف والارتزاق، أو التواجد في منتديات وجمعيات فكرية وحقوقية، للتخلص ولو بحدود من داعي الفعل والتأثير. ومنها الطاقات الخائفة، وهي التي هالها ما وقع من رعب وعدوان، فاستأمنت لنفسها بالبقاء خارج فضاء المواجهة وفضلت الصمود على طريقتها، في انتظار أيام أفضل وأحوال أهدأ. فسعت إلى الحفاظ على تدينها ولو في مستواه الأدنى من شعائر و عبادات وقيم وفضائل ولو بصعوبة أحيانا. ومنها الطاقات اليائسة والمحبطة، وهي أصناف، منها التي غلب عليها القنوط والتشاؤم، لهول المأساة وسرعة الانهيار وضبابية التصورات والممارسات، فآثرت الانطواء وطي صفحة المشروع نهائيا، والاستقالة من الفعل، والتوجه إلى أعمالها الخاصة، لتصبح عنصرا عاديا في المجتمع، يسعى بكل جهده إلى الذوبان فيه فكرا أو ممارسة أو الاثنين معا. ومنها التي حبذت النجاة الفردية بعدما أحبطت في نجاح كل السفينة وخلاص المشروع، فرأت اجتهادا الالتحاق بالوطن والتنازل عن المشروع السياسي، فمنهم من آثر الصمت والدخول في مواطنة ساكنة همها الانكفاء على الذات والأسرة وإنقاذ ما يجب إنقاذه إيمانا وسلوكا، ومنهم من آثر المغالبة وتصفية حسابات الماضي والدخول في معارك هامشية لا تفيد أي طرف بل لعلها تزيد الهشيم على النار... وصنف آخر على نقيض الأوائل، طاقات تتقد عملا وتلهفا على الفعل، غير أنها وصلت من خلال مراجعاتها وتقييماتها إلى يأس من تمكين أفكارها وتمكن مشروعها الذي آمنت به ولا زالت، عبر إطارها الأول، في ظل داخل متعنت وخارج رافض، فآثرت الالتحاق بأحزاب سياسية معارضة أو منظومات فكرية قائمة، حاملة معها لغزها وهمومها، وآملة أن ترى من خلالها تنزيلا للبعض من أفكارها وتصوراتها. ومنها الطاقات الفاعلة، وهي التي غادرت المؤسسة الأمّ ولم تغادر المشروع، وحاولت التعبير عنه من خلال نوافذ تأثيرية مباشرة تمتلكها أو تشارك فيها، مثل الصحف والمجلات ومواقع الإنترنت والفضائيات. وهي نوعية ناشطة، وجدت في الاستقلالية والحرية الفردية إطارا جذابا لها ولإبداعاتها. لكن هذه العزلة المفروضة أو المختارة لن تلبث أن تكون عنصر تثبيط وعدم فاعلية مرجوة، في مقابل قوة الجماعة وإمكانياتها ومدى تأثيراتها. ومنها الطاقات الشاذة، وهي التي غُلبت على أمرها، فخلطت بين انتماءها للدين كشعائر ثابتة ومعتقدات راسخة، وبين اجتهاد في التنزيل وتدافع في التمكين. فانسلخت من هذا وذاك، وارتمت في أحضان النموذج الغالب، انتماء قناعة أو انتهازية، وركبت أمواجه. فمنها من عادى مشروعه علنية، ومنها من اكتفى ب "نجاته" الفردية. إن المرء ليعجب حين يلاحظ أن إبداعات الإسلاميين في الأدب والسياسة والاقتصاد وأخيرا في الإعلام كان أغلبها خارج التنظيم، فأدبيات البنوك والإسلامية وإضافاتها الفريدة لعالم المال، أشرف عليها أفراد غادروا تنظيماتهم وتمكنوا عبر اجتهاد رشيد من بلورة مشروع بنكي جريء يختلف عن الموجود، وعير قراءات الاعتدال والوسطية من إفراز كتابات نوعية وتنظيرات تجديدية في المجال السياسي والحريات العامة التي استقرأت الماضي وبحثت في الموروث وأحدثت نقلة مبدعة في مفاهيم المواطنة وفي العلاقة مع الآخر، قام عليها في الأغلب رجال خارج تنظيماتهم. ولعل المكتبة الإسلامية الحالية في اجتهاداتها وإنتاجها المتعاظم كمّا وكيفا يعود في أساسه إلى مجموعة كتاب وباحثين مستقلين لم يستطع التنظيم استيعابهم، ووجدوا راحتهم في إطار بديل. هذه الحالة المرضية تطلق تساؤلات هامة حول الإطار التنظيمي الإسلامي عموما وما يسمح به من حريات وتفاعل داخله، وعن مصداقية آليات تفعيل مشروعه داخلا وخارجا. الحالة الإسلامية التونسية وعمق الأزمة ليس التوجه الليبرالي لبعض رفاق الأمس ولهذه الطاقات الفاعلة إفرازا جديدا ومفاجئا داخل الإطار الحركي الإسلامي التونسي، ولكنه حلقة جديدة تضاف إلى سلسلة طويلة متنوعة من الخروج من ربقة التنظيم والطلاق من العمل الحركي، والتوجه نحو نجاة فردية أو خلاص فكري أو سياسي، يسعى البعض من خلاله التعبير عن يأس في القديم ومحاولة للعيش أو التواجد أو البناء بعيدا عن مطالب التحزب أو تجاوزات التنظم. لقد تنوعت مشاهد هذا النزيف المتواصل للمشروع الإسلامي منذ التحاق بعض الإخوة في بداية هذه الألفية بكل من الحزب التقدمي الديمقراطي والمؤتمر من أجل الجمهورية، وكان هذا الفصل ناقوس خطر تغافل البعض عنه وتجاهله واستخف به البعض الآخر! وقد كتبت في حينها مقالا ينبذ هذا الخيار وينبه لخطورته ويدعو للتعقل والرشد في شأنه ويحذر الجميع من هذا الشرخ والنزيف المهدد للمشروع في وجوده [[2][2]]... وتواصل النزيف ولم يتوقف، بل زادت وتيرته واتسعت، فخرجت علينا لاحقا ظاهرة عجيبة وغريبة لم ينته مشوارها، صاغتها أياد نظيفة تنصلت من التنظيم الحركي وأرادت النجاة الفردية، فقام بعض الأفراد بمحاورة السلطة والقبول بالتخلي عن الجانب الحركي والتنظيمي في حياتهم والعودة إلى مربع العيش البسيط، بعيدا عن هموم السياسة وتضحيات العمل الحركي وعواقب حمل الهمّ العام... وبين هذا وذاك، لا يخلو مشوار الاستبعاد والابتعاد من حلقة طالها النقاش والحوار والتجاذب السليم أحيانا وغير السليم أحيانا أخرى، مرحلة قاسية ومحزنة لأنها بدأت تطال درجة الرواد... فكان خروج الأخ الفاضل الدكتور الهاشمي الحامدي ثم الأخ الكريم الدكتور صالح كركر عجل الله شفاءه والأخ الفاضل الأستاذ لزهر عبعاب والشيخ الكريم خميس الماجري وآخرين ... يتبع المصدر :مراسلة خاصة من الدكتور خالد شوكات