نجد أنه من المجمع عليه أن الأهداف التعليمية ترمي إلى تكوين مواطن صالح ومنتج. وهذه أصعب معادلة تسعى المجتمعات المعاصرة إلى تحقيقها. وقد حاول الباحثون أن تتضمن مناهج التعليم جملة من الأهداف يعتقد أنها إذا تحققت بنجاعة قد تصل بالمتعلم إلى مستوى الإنسان المتوازن في سلوكه وتفكيره وعمله وهو ما يسمى بالمواطن المثالي أي الإنسان الصالح والمنتج. وقد بني هذا التصور على ما تعانيه المجتمعات منذ أمد بعيد من مظاهر الانحراف والتمرد والتطرف والفساد التي إن لم يساهم التعليم في محاصرتها وإصلاحها فإن قوانين الردع والسجون لن تحدّ منها لأن المسألة ضاربة في الوجدان ومتحكمة بالعقل نتيجة خلل تربوي أولا ثم تعليمي ثانيا. ولذا كان الاهتمام مركزا على ترسيخ التربية وتهذيب السلوك حتى يتسنى فرض قدسية التعلم واحترام المعلم والمؤسسة التعليمية وإن كان بالتلقين وشيء من القسوة حرصا على حفظ مكانة التعليم في حياة الشعوب. وتدريجيا شهدت مناهج التعليم ومنهجيات التعلم في تونس والمجتمع العربي عموما تحوّلا سريعا نحو مزيد من الانفتاح والتحرر غير المدروس بذرائع مختلفة وقد نسينا أن التعليم هو الذي يؤسس لرقي المجتمعات ويحدث التحولات فإذا بالتعليم يتأثر برياح التغيير الطارئة والضاربة بالأصول والخصوصيات ولعلها بسبب التبعية والليبرالية وغلبة النزعة الاستهلاكية وسوء فهم العولمة التي بقدر ما أغرت الإنسان ومكنته من تطوير رغباته، جردته من القيم الأصيلة وصواب تطلعاته فأضحى التعليم لديه أقل تأثيرا من الإعلام الإشهاري وعروض الموضات وفضائيات الترويج والتهريج والتعويج والتهييج ليست قليلة. إن التربية الأخلاقية تعزز إيمان الإنسان وتهذب وجدانه والتعليم يصقل العقل ويمكنه من التفكير السليم والايجابي. والإيمان الضعيف يذهب بالعلم أيّما مذهب والتعليم الذي يهمل الدور التربوي يضعف الإيمان بالقيم والأخلاق فيتسرب الشعور بالتسيب والانحراف والتطرف إلى حد عدم الشعور بالخطأ وتقدير عواقب الخطيئة. وكم من زيغ بدأ بالعنف اللفظي داخل المدارس وأمامها وانتهى بالجريمة في حضن المجتمع وكم من جريمة ترتكب باسم العلم أو نفوذه ومثال ذلك سرقة الأعضاء البشرية وطبابة الإسقاط غير الشرعي والتمعش بالدروس الخصوصية وغيرها من خيانات لميثاق الشرف المهني والوطني والإنساني. الأخلاق، إذن، هي القاعدة الأساسية للسلوك السليم وللتفكير النقي وللعلم الايجابي لأن السلوك الواعي والمسئول يستثمر الذاكرة والذكاء والمهارات المختلفة في إنتاج الأفكار الايجابية وتنفيذ الأعمال الجيدة بما يحقق الإبداع وجودة الإنتاج وتحسين الحياة عموما. قيل قديما العلم نور ويقال اليوم العلم سلاح. فإذا وقع هذا السلاح في يد فاسد فستكون مضاره أكثر من منافعه ولذا يجب أن يكون هذا السلاح في أيدي أمينة. والأمان يأتي ممن لهم قيم أخلاقية ويمتلكون الوعي ويقدرون المسئولية ويحترمون رسالتهم العلمية والإنسانية. فالمعلم والطبيب والمهندس والمحامي والقاضي والخبير المختص والسياسي وغيرهم... إن لم يكونوا على خلق ومن الثقاة فإن خطرهم لا يقل خطورة عن عدو مندس يخرب المجتمع من الداخل. إن نظافة السريرة والسيرة تبدو أشد ضرورة من الشهادة العلمية. فكم من المفسدين اتخذوا من العلم وسيلة لإشباع نزواتهم وتحقيق مقاصدهم الخبيثة ؟. ليسوا هم كثيرون ولكن الوباء يبدأ محدودا ثم ينتشر حين لا يجد الوقاية والمقاومة. بناء على هذا التصور يجب أن يرمي التعليم إلى الموازنة بين التربية والتكوين، بين الأخلاق والعلم إذ لا يختلف علم بلا أخلاق عن الجهل بمكارم العلم. ومن يمارس مهنة التعليم يدرك دون شك أن دوره التربوي قد اضمحل وأن الغش في الامتحان على سبيل المثال يكاد يصبح ظاهرة لا تثير الخجل ولا تقلق كثيرا وأن الوساطة أو الرشوة في مختلف الشؤون قد أضحت سبيلا إلى تحقيق المآرب، يمارسها الأمي والمتعلم سوية ويقع ضحيتها صاحب الشأن وفاقده. ولا شك أن القوانين أصبحت عاجزة عن علاج هذه المسألة الخطيرة لأن المسئول عن تنفيذ القوانين هو نفسه ضعيف أمام المغريات لخلل في تربيته وأخلاقه ما يعني أننا في حاجة إلى إعادة النظر في محتوى وأساليب مناهجنا التعلمية وفي رسم الأهداف منها بصورة تضمن تخريج جيل متوازن السلوك والتفكير وإيجابي المردود وهذا أمر يستلزم بالضرورة وضع فلسفة أو سياسة أو استراتيجية تعلم جديدة ركناها تنمية الإيمان وتنمية التفكير العلمي عوضا عن دروس الوعظ وتلقين المعلومات التي اكتظت بها ذاكرة المتعلم لتصبح مجرد قرص قابل للمحو بعد كل امتحان لتكون جاهزة لحشو جديد. وهكذا يرتقي المتعلم من مرحلة إلى أخرى دون أن يتعلم الكثير وينمو إيمانه وفكره ويصقل عقله. والغريب أن جل المشرفين والممارسين لمهنة التعليم يشتكون رداءة المردود ويدركون ضعف المستوى وتدهور القابلية على التعلم. ولكن تبقى الشكوى صدى يتردد بين المشتكين وتستمر المؤسسات التعليمية تستقبل وتودع أفواجا من المتعلمين قليلهم ينال نصيبا من التعلم وكثيرهم ناله الإحباط فاعتنق فلسفة "الغاية تبرر الوسيلة" و"قوة الضعيف في امتلاك الحيلة" والخطير في الأمر أن يسود الشعور بالظلم وعدم المسئولية لدى هذا الكم الكثير من المتعلمين من أبنائنا. فهل سيكون بين هؤلاء إنسان متوازن ومواطن صالح ومنتج ؟؟. أليست هذه الأرضية الخصبة التي يتغذى منها الانحراف والتمرد والتطرف والتي يتعزز بها الجهل والتخلف ؟؟. فهل صار التعليم جسرا للمرور من براءة الطفولة والتطلع إلى الآفاق إلى عبثية الوجود ومقالب الحياة ؟؟. طوفان الرداءة آخذ في الصعود ومنابر التعليم عاجزة عن تبليغ رسالتها ونجدة روادها من مخاطر الطوفان والمسؤولون يتحاشون المواجهة وكأنهم ينتظرون حدوث معجزة أو طلعة نبي ليتلو عليهم سورا من نور وعلما مبينا وعودة الوعي واليقين حيث لا تدجين للعقل ولا تغييب للفكر ولا تدجيل في العلم. وحتى لا أقع فيما أشرت إليه، أحمل المسئولية عن ضياع الأجيال للولي الحائر في أمر أبنائه ولا يحرك ساكنا وللمدرس المنتظر لراتبه الشهري ولا يهزه تأنيب الضمير ولصاحب القرار الممعن في التدجيل والتدجين وهو يتلو في كل مرة فاتحة عهد جديد من الإنجازات الواعدة أو الوعود الرادعة للخارجين عن صراط الهاوية. والتعليم عندنا خير صراط إليها والأجيال الراهنة هي الضحية بل جميعنا ضحية لفساد واستبداد هذا الراعي أو ذاك ونفاق وانحراف البعض من الرعية.