21 ديسمبر2017 موعد جديد في تاريخ القضية الفلسطينية معه استعادت فلسطين ومعها الشعب الفلسطيني موقعه في المشهد الدولي ومن العدالة الدولية المغيبة. فلسطين كطائر الفينيق الأسطوري، كلما ساد اعتقاد باندثاره الا وعاد محلقا من جديد.. صحيح ان القرار بشأن مصير القدس –الذي حظي بتأييد 128 دولة مقابل تسع دول انحازت للفيتو الامريكي و35 امتنعت عن التصويت - ليس ملزما، ولكنه يظل مكسبا سياسيا وديبلوماسيا وانتصارا ثمينا في معركة طويلة لا نخالها قريبة من نهايتها... انتصار جاء ليعزز الحق الفلسطيني المشروع ويعيد الاعتبار لمعنى العدالة الدولية بعد رفض المجتمع الدولي ديبلوماسية التهديد والوعيد والتجويع وانتفض على مقايضة المساعدات الامريكية بالصمت عن الحق وتبني دور الشيطان الاخرس... لا وقت للاحتفالات او الافراط في التفاؤل وقد لا نجانب الصواب إذا جزمنا بأن اسرائيل بدأت ومنذ اللحظات الاولى لصدور نتائج التصويت في الجمعية العامة الاتصالات لاستقطاب دول تمردت على القرار الامريكي وإغرائها بوعود، وربما بمساعدات لكسب تعاطفها ودعمها في معارك ديبلوماسية مرتقبة وقد لا تكون بعيدة وهو ما يحتم على الفلسطينيين عدم التوقف عند هذا التصويت واستباق المخططات القادمة... لا شيء بعد هذا التصويت يوحي بأن ادارة ترامب فهمت الرسالة أو قبلت إرادة الشعوب الحرة، والارجح أن فريق الرئيس الامريكي الذي يقوده صهره غاريد كوشنير، المتطرف في دعمه للاحتلال الإسرائيلي، لن يقبل بشرعية العدالة الدولية التي اختار ان يدوس عليها ويخترقها.. من غير المرجح ان تنسحب امريكا من هيئة الاممالمتحدة لأنها ستزيد بذلك في عزلتها، ولكن من المرجح أن تتجه الادارة الحالية الى تقليص مساهماتها للأمم المتحدة ورفع مساعداتها عن الدول التي غلبت الحق والعدل في التصويت.. وهي خيارات تمس صورة ومكانة امريكا أكثر مما تمس الدول المعنية. وإذا كانت الدول التي اعترضت على القرار الامريكي ستخسر بعض المساعدات المالية فان واشنطن ستخسر مكانتها ومصداقيتها وموقعها بين الامم والشعوب وهي تعتنق سياسة التهديد والوعيد وتتخلى عن القيم والمبادئ الدولية المشتركة.. نقول هذا الكلام وفي البال صورة السفيرة الامريكية نيكي هايلي وهي تصر على المكابرة والبلطجة وتواصل توزيع التهديدات بعد التصويت، وهي التي كانت تعتقد أن مجرد التلويح بوقف المساعدات سيدفع الدول المعنية الى استجداء واشنطن والرضوخ لمنطق الابتزاز والمقايضة لشراء الذمم وكبت الاصوات... وهو ما ذهب اليه السفير الاسرائيلي بدوره عندما وصف الاممالمتحدة ب"بيت الكذب" واتهم الدول الرافضة لقرار الفيتو الامريكي ب"الدمى التي تحركها السلطة الفلسطينية"، متناسيا بذلك أن كيان الاحتلال الاسرائيلي ولد من رحم الاممالمتحدة التي يدوس اليوم على ميثاقها وقوانينها.. لا للمقايضة.. لا للابتزاز ولعله من المهم اليوم بعد تصويت الجمعية العامة التوقف عند محطات مهمة سبقته، وأولها اعتماد القرار بشأن حق الفلسطينيين في تقرير المصير قبل يومين ب176 صوتا، وهو في قناعتنا اهم من تصويت الامس بشأن القدس، لأن في هذا الاجماع الدولي على حق الفلسطينيين في تقرير المصير اجماع على رفع والاحتلال وإنهائه، وبالتالي اجماع على تقرير مصير القدس وهذا ما يجب الانتباه له والعمل على تجسيده على الارض. ولا شك ان اختيار الرئيس الفلسطيني محمود عباس ان تكون اول محطة خارجية له بعد التصويت الحاصل في العاصمة الفرنسية باريس ما يمكن أن يؤشر الى ان جزء من المعركة السياسية القادمة سيكون في اوروبا والدول الدائمة العضوية في مجلس الامن الدولي التي اجمعت على رفض لجوء ترامب للفيتو، وهي محطة تأتي بعد الصفعة التي تلقاها ناتنياهو الاسبوع الماضي في باريس وبروكسيل حيث وجد الصد لطلبه من الدول الاوروبية الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الاسرائيلي.. من الواضح اذن أن القضية الفلسطينية تعيش منعرجا حاسما بعد خروجها من دائرة التهميش والتجاهل والتغييب في المحافل الاقليمية والدولية والإعلامية، ولابد من الاستثمار في هذا المنعرج لقطف ثمار المعركة القادمة والتي ستكون أخطر وأعقد. لقد جاءت التحركات الشعبية والهبة التضامنية العالمية لتعزز هذا التوجه.. ولكن يبقى الاكيد ان كل ما حدث ويحدث حتى الان من تفاعل ايجابي مع الشعب الفلسطيني لا يمكن التفريط فيه او السماح بتكرار اخطاء الماضي والانصراف الى الصراعات والانقسامات التي لا يمكن الا ان تخدم سلطة الاحتلال.. من كان بيته من زجاج... عزلة واشنطن بعد لجوئها للفيتو يجب أن يتجه الى تفعيل كل الجهود لطرح الخيارات والبدائل المتبقية. ذلك ان المطالبة بالتخلص من اتفاقيات أوسلو الكارثية لا يمكن ان يحل المشكلة، وقبل التخلص من هذا القيد لا بد من بديل حتى لا تتعلل واشنطن ومعها سلطة احتلال بتحميل المسؤولية للفلسطينيين وحدهم.. البحث عن بدائل يستوجب أيضا التوصل الى وسيط جديد للسلام يحل محل واشنطن التي ما انفكت تسيء لهذا الدور. وحتى الان البديل الوحيد الذي يمكن ان يحظى بموافقة كل الاطراف هو الاتحاد الأوروبي، ولكن حتى هذه المرحلة ليس هناك ما يعكس وجود رغبة أوروبية في الاضطلاع بهذا الدور. ثم ان عقدة الذنب الاوروبية قد تتحول الى ذريعة لإسرائيل لتكبيل الدور الاوروبي وتطويعه. ولكن ماذا عن بقية الدول الكبرى الاعضاء في مجلس الامن الدولي التي أجمعت على رفض قرار ترامب؟ وهو ما يعني ضمنا أن هذه الدول الدائمة العضوية في مجلس الامن الدولي غير متفقة مع توجهات ادارة الرئيس ترامب، وهنا مربط الفرس وضرورة العمل على موقف أكثر توازنا وعدلا من روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا، وهي مسألة ليست هينة ولا هي محسومة سلفا. العمل الجدي يبدأ الان.. وإذا كان ترامب أعلن الولاء والدعم لإسرائيل فإن العالم اختار فلسطين.. عربيا وبرغم كل المآسي التي تخترق المشهد وتزيد معاناة الشعوب فقد جاء الرد واضحا، إذ صوتت الدول العربية بصوت واحد رفضا للموقف الأمريكي، وهو ما يعني أنه عندما يتعلق الامر بالقضية الفلسطينية فإن كل الحدود والحواجز والاختلافات تتوارى وتسقط، أو على الاقل تؤجل، وهذا ما يفترض أن يستمر وأن يكون عنوان المرحلة في المشهد الفلسطيني الذي يفترض اعادة ترتيب البيت ومعه اعادة تحديد البوصلة.. فلا مكان اليوم لحكومة في غزة واخرى في الضفة، ولا مكان لسلطة تحت راية "حماس" وأخرى تحت راية "فتح"، فكل سلطة تحت الاحتلال سلطة وهمية تروج للأوهام... "فتح" كما "حماس" تحتاج لرص الصفوف وإعادة تحديد الاولويات وتقديم التنازلات التي تدفع الى اعتماد صوت فلسطيني واحد يخاطب العالم وينتصر لحقوقه المشروعة.. ومن هنا اهمية القيام بالمراجعات الصعبة والتنازلات المطلوبة لتهيئة الارضية لجيل فلسطيني جديد، هو ذلك الجيل الذي بات يرهب جيش الاحتلال ويكشف خيباته وعقلية الارهاب فيه.. انه جيل عهد وفرح التميمي وكل تلك القوى الشعبية المتأهبة التي جعلت بالأمس وجهتها بالآلاف الى القدس... لا شيء اليوم يستعصي على ابناء الشعب الفلسطيني وقد خبروا مواقع القوة فيهم وأدركوا - وهذا الاهم - مواقع الضعف والهنات التي تستوجب المعالجة والاصلاح.. العالم انتبه بالأمس للصوت الفلسطيني مدعوما من المجتمع الدولي ولممثلي الشعوب الحرة الرافضة للتقزيم والعنصرية وهو الصوت الذي يتعين ان يرتفع اكثر واكثر في الغرب وتحديدا بين مختلف مكونات الراي العام الامريكي ومؤسساته الديموقراطية، كما بين تلك الفئة المنسية من اليسار الاسرائيلي المعادي والرافض لسلطة وممارسات الاحتلال، وكل المنظمات الدولية الحقوقية التي يتعين ان تعود الى المشهد لتعزيز العدالة الدولية وحق الشعب الفلسطيني في السيادة والكرامة، فعلا وتجسيدا على ارض الواقع وليس قولا أو نشرا للأوهام والسذاجة.. ما ينتظر السلطة الفلسطينية بعد هذا التصويت أعقد وأخطر مما تم حتى الآن.. إنها معركة مهمة في حرب استنزاف طويلة ليست قريبة من نهايتها... هروب مندوب اسرائيل المتعجل وانسحاب السفيرة الامريكية لا يجب ان يغرق الاطراف الفلسطينية والعربية والاسلامية في تفاؤل لا محدود.. سلطة الاحتلال تدرك جيدا انها في موقع خاطئ وأنها اول وأكثر من ينتهك ويدوس على قرارات الشرعية الدولية وقوانينها.. وسيكون لزاما ان تتجه المعركة الديبلوماسية للضغط في هذا الاتجاه وكشف قبح وهمجية صورة سلطة الاحتلال للرأي العام الدولي، الذي يتعين عليه ان يدرك ان تداعيات ما يحدث في الشرق الاوسط من حروب وصراعات دموية وأزمات اللاجئين وصفقات السلاح وانتشار عصابات الموت والارهاب مرتبطة بشكل أو بآخر بممارسات الاحتلال، الذي يتعين ان يدفع ثمن الجرائم التي يواصل اقترافها منذ عقود. وعدى ذلك ستفتر الاحتجاجات الشعبية وسيتراجع وقع التحركات الديبلوماسية وستعود اسرائيل الى مواصلة السطو على الارض والعرض...