اختيار الهيئة المديرة لمهرجان ليالي العبدلية بالضاحية الشمالية للعاصمة الفنان زياد غرسة ليكون في افتتاح الدورة السابعة التي تشرف على إدارتها وحيدة الدريدي، كان ناجعا وصائبا. نظرا لقيمة هذا الفنان وخصوصية ما يقدمه من أعمال وعروض سمتها البارزة هي أنها موغلة في الخصوصية التونسية بإيقاعاتها ومقاماتها الموسيقية، هذا من ناحية أما المعطى الآخر الذي يحسب لهذا الاختيار هو أن هذا المهرجان أصبح يصنف ضمن المهرجانات الوطنية ذات منحى ثقافي فني وطربي بامتياز تماشيا مع خصوصية الفضاء التاريخي المتمثل في قصر العبدلية وتوجهه للثقافة التونسية والمراهنة على المبدعين في مختلف الأنماط الموسيقية والقطاعات الثقافية وبدرجة أولى الموسيقى والمسرح باعتبارها من أكثر العروض إقبالا وطلبا في موسم المهرجانات الصيفية. وقدم زياد غرسة في هذه السهرة عرضه الجديد «مدينة عربي» الذي انطلق منذ الساعة العاشرة ليلا وتواصل، دون انقطاع أو تقطع، على امتداد أكثر من ساعتين بمرافقة سبعة عازفين على آلات موسيقية مختلفة من «التشيلو» والأورغ والدربوكة والدف فضلا عن حضور أعداد كبيرة من الجمهور بما تسمح به طاقة استيعاب الفضاء المحتضن للعرض. وكان مناسبة للاستمتاع بالمقامات التونسية من ناحية وبالطاقات الصوتية المتميزة لملك السهرة. والاستثناء الوحيد في العرض هو إصراره، أي الفنان، على مخاطبة الجمهور من حين لآخر للتعبير عن فرحته وسعادته بملاقاتهم في هذه المناسبة ولوضع العرض واختياراته في السياق الذي أراده. خاصة أن هذا العرض كان شاملا لمختلف الأنماط الموسيقية من إيقاع ومالوف وموشحات وطرب وغيرها من الأغاني العادية. فقال: «أحاول من خلال هذا العرض التجريب واكتشاف نفسي في نوع آخر من الموسيقى». فجاء العرض مختلفا عما قدمه زياد غرسة في السابق رغم ثراء رصيده من الأغاني والعروض باعتبار أنه عرض يعود لأغاني كلاسيكية تعد مادة تحتفظ بها الذاكرة الغنية التونسية. والهام في هذا العرض أنه كان بمثابة رحلة حنين قادها زياد غرسة لتنبش في أعماق الأغنية التونسية من خلال اختيار مجموعة الأغاني لفنانين يصنفون من رموز الأغنية التونسية القديمة خاصة أن وراء كل أغنية قصة طريفة من واقع تونس الحاضرة في العقود الأولى من القرن التاسع عشر. فكان العرض مناسبة لاستحضار إبداعات فنانين قدامى اختار زياد غرسة أن يحتفي بهم على طريقته بإعادة إحياء أعمالهم وتقديمها لجمهور القرن الحادي والعشرين بالمحافظة على النفَس الطربي والفني التونسي على غرار كل من مصطفى الشرفي في «لا نمثلك بالشمس ولا بالقمرة» والصادق ثريا و»الي تعدى وفات زعمة يرجع» للهادي الجويني و»ناري على جرجيس وبناويتها»لنعمة و»يا دار الحبايب» و»منيرة» للهادي القلال و»دار الفلك من بعد طول العشرة» لصليحة و»يا فاطمة بعد النكد والغصة» للشيخ العفريت وموشح الكون الى جمالكم مشتاق» من تلحين صالح المهدي، إضافة إلى أغاني أخرى من قبيل»بحذا حبيبتي تحلى السهرية» و»ما كنت أدري» و»روح مالسوق عمار» وغيرها من الأغاني الأخرى التي عرفت بأصوات فتحية خيري والطاهر غرسة وغيرهما. وغنى من المالوف «يا ناس جراتلي غرايب» و»قاضي العشق». ولم يكتف في نفس العرض بأغاني الأخرين بل قدم أيضا مجموعة من أعماله الخاصة التي تتماشى مع خصوصية وخط عرض «مدينة عربي» فغنى «علاش تحير فيّ» و»حبك كم عيارو» التي كتب نصها كل من شاهر خضرة ومنصف الوهايبي ولحن له سمير العقربي ولا تزال تحظى بطلب الجمهور. وغنى في الجزء الأخير من السهرة بعض من أغانيه التي تفاعل معها الجمهور بالرقص والتصفيق من قبيل»ترهويجة». وهو ما بعث أجواء من المرح وجدت تفاعلا كبيرا من الجماهير الحاضرة. كما كانت المواويل والقصائد حاضرة بقوة في هذا العرض الذي كان فنيا بامتياز باعتبار أن هذا الفنان نجح في إعادة صياغة وتقديم جملة الأغاني القديمة التي أثث بها عرضه على طريقته وبدا متمرسا عليها وأخذ حظه الكامل في التحضير للعرض. القطع مع النمطية ومغازلة العالمية ونزل زياد غرسة هذه الاختيارات في إطار التجريب ومحاولاته المتكررة للبحث عن التجديد وتجديد ما يقدمه للخروج من النمطية لكن دون التخلي عن شرط القيمة الفنية. لأنه يعتبر أنه آن الأوان للخروج من المحلية إلى العالمية. وهو ما أكده هذا الفنان في حفله. وما ساهم في نجاح العرض فنيا هو نوعية الحضور الجماهيري الذي بدا أن مجيئه لفضاء قصر العبدلية لم يكن وليد الصدفة وإنما عن قناعة واختيار لهذا الفنان. إذ انخرط الجميع في أجواء العرض بالانتشاء بصوت متميز وكلمات وقصائد وقصص فيها حنين للماضي والتاريخ الحافل بالأحداث في «الحاضرة التونسية في منتصف القرن الماضي إلى جانب الاستمتاع بالجمال وأجواء الطرب والموروث والطبوع التونسية في عرض تسلطن فيه صاحبه والجمهور. فكان حضور زياد غرسة في هذا العرض وطريقته في التواصل مع جمهوره بمثابة «درس» يؤكد أن نجاح الفنان وتحقيق الحظوة والحب الواسع لمن قبل الجمهور لمكسب لا يصنعه التكبر والتصنع او الاعتداد بالذات بل بقدر هو نتيجة ما أبداه من ثقة بالنفس فنيا وصوتيا واحترام فنه وجمهوره بالتحضير من ناحية، وبالتواضع والصدق الفني من ناحية أخرى لذلك بدا كما لو أنه لا يزال في بداية الطريق، فكلماته مدروسة وتصرفاته وتحركه على الركح وتفاعله مع الجمهور مدروس ولم يدنسها التصنع. مديرة المركز تناشد في تقديمها للمهرجان والحفل وجهت وحيدة الدريدي مديرة المهرجان والمركز الثقافي بقصر العبدلية، طلبا ومناشدة لرجال الأعمال والمستثمرين للتدخل للمساهمة في إنقاذ هذا القصر باعتباره معلما هاما وفضاء ثقافيا متميزا من الدمار وذلك من خلال المساهمة في إعادة تهيئته وإعماره.