ما حدث ويحدث داخل مجلس نواب الشعب اليوم في غفلة من الجميع وأمام صمت القوى السياسيّة التي لاذ معظمها بالربوة في انتظار ما ستسفر عنه معركة كسر العظام بين كتلة الدستوري الحرّ من جهة وحركة النهضة وذراعها "ائتلاف الروابط" الحاكمين بأمرهم والمتحكّمين في تسيير مجلس نواب الشعب من جهة ثانية. ما يحدث ويحدث منذ أكثر من أسبوع اشبه ما يكون بعمليّة تبادل أدوار ممعنة في الرمزيّة واقرب الى الاستعادة المكثفة والمركزة (لو حسبنا الأيّام بالسنوات) لما حدث بداية التسعينات اثر انتهاء العرض العسل بين "الجنرال" بن علي وشيخ النهضة راشد الغنوشي وإعلان الأخير عن تحرير حركته المبادرة والدخول في حرب إلغاء مع النظام (صرّح الغنوشي لاحقا سنة 2011 في حوار لقناة "حنبعل" أنّه أكثر المواقف التي ندم على اتخاذها). مرّة أخرى إذا يعيد التاريخ نفسه في أكثر اشكاله سخرية وهزالا وفي استعادة مكرورة "لجدليّة الجلّاد والضحيّة" لكن هذه المرّة بنكهة "الانتقام" الديمقراطي المطابق لمواصفات ثورات الربيع العربي المغدورة. يقرّر الحزب الدستوري الحرّ وريث التجمع الدستوري الديمقراطي تحرير المبادرة ويدخل نوابه في اعتصام مفتوح ضدّ رئيس حركة النهضة/رئيس مجلس نواب الشعب الحاكم بأمره الذي حوّل مجلس النواب إلى حديقة خلفيّة لحركته أو لنقل إلى"حرملك" سلطاني تشبها بايقونته التركية "اوردوغان" وذلك لادارة "افارياته" السياسية داخليا وخارجيا، فتردّ النهضة من دون كلّ الكتل البرلمانيّة على المعتصمين من خلال ما يمكن تسميته "بالتعذيب الناعم" والعنف الرمزي (قطع الماء، الإنارة، المكيف، الانترنات، والحصار والتعتيم الإعلامي، رفض الزيارات للمعتصمين إلى جانب برمجة جلسات شتم يومي اختصّ بها ذراعها الشبابي "ائتلاف ااروابط " ونائباتها المجندات للذود عن الرئيس وكرسيه البرلماني لنقل "فدائيات الشيخ" ليكتمل المشهد أمس الاثنين باستدعاء أعوان الضابطة العدليّة لمعاينة الاعتصام مقدمة لاقتحامه وفكّه بالقوّة في ظلّ تضارب في الآراء حول مدى قانونية هذه الخطوة والتخوفات من اقحام المؤسسة الامنية والقضائية في صراع نيابي سياسي بامتياز. الدستوري الحرّ مزهو بجملة التطورات وبالاضطراب الذي أدخله في صفوف غريمه النهضاوي ويرى في كل تصعيد من رئيس المجلس وسام شرف له يمنحه مشروعية نضاليّة هو في أمسّ الحاجة اليها لمزيد دعم رصيده الانتخابي ومقبوليته الشعبيّة، بل لعلهم ينتظرون بفارق الصبر أن يتم جرجرتهم من وسط قاعة البرلمان الكبرى وايقافهم ولم لا سجنهم لتكتمل "دورتهم النضالية" وتتحقق اهدافهم في وصول الشعب التونسي الى خلاصات جوهرها تسفيه مكسبي الديمقراطية وحقوق الانسان وضرب لحق الاعتصام الذي ضمنه دستور 2014. بل لعلهم لم يترددوا في منطوق خطابهم من توصيف ما يحدث معهم بالتعذيب الممنهج تحت أعين رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي وبإشراف مباشر من مدير ديوانه الحبيب خضر ورئيس كتلته نور الدين البحيري وبتنفيذ من "ميليشيات" المخلوف وبعض النائبات النهضاويات والذي يستدعي التشهير بها اقليميا ودوليا وتقديم الشكاوى الى منظمات حقوق الانسان. في استعادة لنفس سرديّة المظلومية التي سبق ورددتها حركة النهضة لعقود وسنوات. الفرق أنّ الضحيّة هذه المرّة هو الحزب الدستوري الحر ونوابه المعتصمين بمجلس النواب تحت شعار "انقاذ البلاد من التمكين الاخواني". صور تتدافع ورمزيات تتصارع في اكثر أشكالها تكثيفا وتتغذى من المناخات السياسية الصدامية التي لا تختلف عن مناخات بداية التسعينيات والتعذيب الوحشي الذي كان يمارسه بن علي ووزير داخليته عبد الله القلال وزبانيته بتواطؤ من الشعب التجمعيّة ولجان اليقظة على النهضاويين. وحده السياق التاريخي وفطنة الشعب وحدها تمنع من تتحوّل أروقة مجلس النواب إلى أقبية شبيهة بأقبية الداخليّة مع أن ما يصلنا من صور و"فيديوهات" عن الالتحامات اليومية وما نسمعه من خطابات مشبع بكلّ أشكال العنف الناعم المؤجل لحين قد تكون مقدمات تهيئ الركح السياسي لأن يكون حلبة حرب مفتوحة بين الغريمين. من الصعب الحسم والتنبؤ بمآلات هذا الصراع والتكهن بأي الغريمين سينتصر فيه ويفرض ارادته، لكن الأمر المؤكد في كلا الحالتين أن الخاسر الاول والاخير البلاد التي انتهكت هيبتها والشعب التونسي المغلوب على امره الذي استبيحت كرامته. فمثلما عاش إثر الصدام النهضاوي التجمعي في بداية التسعينات 20 سنة من الاستبداد والدكتاتورية قد يستفيق مستقبلا نتيجة العبث الذي يشهده المجلس والبلاد على عقود من الفوضى التي تعصف بالدولة التونسيّة وتأتي على كل مقدراتها وتخرب نسيجها الاجتماعي. في الفصل الثالث والعشرين من مقدمته كتب العلامة التونسي عبد الرحمان ابن خلدون مقولته الشهيرة التي يمكن اعتبارها أهمّ مقدمات الوعي التاريخي الخلدوني وقد جاء فيها "أن المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده" بطبيعة الحال كان المقصود بظاهرة "الغُلب" ما يتعلق بمجال السياسة والتي تقابلها ظاهرة التقليد عند المغلوب في المجال الثقافي – الاجتماعي، لكن يبدو أن "غُلب النهضة" وتقليدها تجاوز السياسة والثقافة والاجتماع إلى التصعيد النفسي والرغبة في الانتقام المادي ولو بأشكال ناعمة مخففة من خلال استنساخ "عوائد" ماكينة القمع النوفمبريّة. هذا ما يظهر في الصورة ولكن وراء الأكمة ما وراءها وقد تخفي الصورة عشقا مؤجلا ولقاء مستحيل بين خطان لا يلتقيان الا باذن مصالح السياسة ومصالح الكبار، أو لم يقلها جميل بثينة؛ "وَأَوَّلُ ما قادَ المَوَدَّةَ بَينَنا بِوادي بَغيضٍ يا بُثَينَ سِبابُ وَقُلنا لَها قَولاً فَجاءَت بِمِثلِهِ لِكُلِّ كَلامٍ يا بُثَينَ جَوابُ"