في مثل هذه الأيّام من رمضان سنة 1973 عبر الجيش المصري قنال السويس مسقطا جدار «برليف» الإسرائيلي في ما سمته أدبيات العسكرية المصرية بنصرأكتوبر وتداولته الذاكرة الإسرائيلية تحت مسميات حرب الغفران. حرب أكتوبر التي خاضها المقاتل المصري مدعوما بالمشاركة السورية ضدّ إسرائيل جاءت لتعيد للعرب بعضا من كرامتهم المهدورة تحت وطأة النكسة القاسية لسنة 1967 مترجمة هذا الكسب المعنوي الرومنسي إلى مكاسب على الأرض ورصيد من أوراق القوة الصالحة للمناورة لتحسين الموقف السياسي المصري والعربي رغم ما حفّ بتقييم نتائج حرب أكتوبر من اختلاف ذهبت بعض اتجاهاته إلى التقليل من قيمة النصر المحقق واتهام الرئيس السادات باجهاض مسار النّصر الكامل بقبوله خطة وقف إطلاق النّار ومسؤولية قراراته الميدانية المتخبّطة عن الثغرة التي فتحها الجيش الخامس الإسرائيلي والتي سمحت له باختراق الخطوط الخلفية للقوات المسلحة المصرية والإشراف على تهديد العمق المصري إلى حدود مدينة الإسماعيلية!! كانت حرب أكتوبر المعروفة بالمشهد الملحمي للعبور محطة ضمن تاريخ المواجهات العسكرية العربية - الإسرائيلية التي سيطرت على مناخات العلاقات الدولية ومثلت بعقدتها المتمركزة حول القضية الفلسطينية عصب التوترات الرئيسي لمجمل مظاهر غياب الإستقرار والخطر الدائم الجاثم على منطقة الشرق الأوسط بل والمهدّد لمجمل حالة الإستقرار العالمي. الآن في ذكرى أيام عبور أكتوبر تنشط الدعوات الإقليمية والدولية لفائدة عقد مؤتمر سلام يجلس من خلاله العرب وإسرائيل إلى طاولة تفاوض يبدأ بقضية الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية لينتهي وهذا الأهم في نظر الراعي الأمريكي والغربي إلى اعتراف عربي كامل ومباشر بإسرائيل. يبدو النظام الرسمي العربي حاليا في أضعف حالاته هيكلا وتنسيقا وقدرة على جني المكاسب من مبادرات سياسية بحجم مؤتمر سلام دولي، لقد ضيّعت أسباب عميقة مكاسب العبور التاريخي في أكتوبر وأجهضت شحنته الرمزية والحضارية (وهذا الأخطر) حين بان واضحا أن جيشا نظاميا وحده من نجح في العبور وأن مجتمعات عربية بأكملها فشلت في أن تعبر وهي المعنيّة أساسا بقضايا النّصر والهزيمة في مثل هذه الصّراعات التي لا تمثّل السياسة أو الحرب فيها سوى امتدادا لفضاء أكبر هو البحث عن التحقق الحضاري واتجاهاته المتطلعة إلى التقدّم. نجح الجيش المصري في العبور إلى الضفّة الأخرى للقنال ونجح في إسقاط حاجز «برليف» احدى أساطير الدفاع الإسرائيلي لكن مجتمعاتنا فشلت في العبور الأهم الضّامن وحده للنّصر الاستراتيجي، فشلنا في العبور إلى الحداثة والتقدّم والنماء والتنوير والحرية والمواطنة والمشاركة الواعية واحترام قيم العلم والعمل والعقل والمبادرة والكفاءة والمساواة والجمال، لقد فشلنا أمام جدار «برليف» سميك من تخلّف التنمية وبؤس الفكر وفقر الثقافة وقوّة الاستبداد وشحّ المواطنة وتصحّر العقول وتزمّت الأفكار وتخبّط المشاريع وسطوة الشعارات. جدار «برليف» استراتيجي هو ذاته ما يحمي إسرائيل إلى الآن من أي تهديد نهضوي عربي لها رغم سقوط جدارها العسكري. حتى السلام لا زلنا نظنّه معركة ذكاء سياسي ولم نفهم بعد أن الفاشل في الحضارة لا يمكن أبدا أن ينجح في السياسة.