بقلم: مصطفى البعزاوي انقبض قلبي وأنا أتابع مشاهد القبض على العقيد القذافي بين مشهدين، مشهد أسير حرب بين أيد تتدافعه نحو جهة أمامية على الأرجح أنه يعرفها وبين مشهد جثة بعد دقائق معدودة تتلاعب بها الأيدي ودمعت عيناي لهذا المشهد المخزي الذي جال أصقاع العالم. وقفزت من ذاكرتي مشاهد القبض على تشاوسيسكو بتفاصيلها وسألت نفسي ما الفرق بين المشهدين؟ لم أجد فارقا مطلقا إلا بعض اللحى وأصوات التكبير وعلامات الشماتة والفرحة. المشهد نفسه لا ناقة لي فيه ولا جمل، أما التكبير فهو لي وأنا أبرأ من هذا الربط المقرف بين هذه المشاهد وبين التكبير. وها أنا أقدم شهادتي لكل الناس عربا وعجما أن هذا التكبير الذي أعرفه وأصلي له وأدعوه هو براء من هذا القتل والتنكيل على المباشر. ليس بين مشاهد تشاوسيسكو ومشاهد معمر القذافي مسافة. فما دخل "الله أكبر" والمشهد هو المشهد والعملية ذاتها. فما نفع الله أكبر في قلب هذه المهزلة. إذ لم يفدنا "الله أكبر" بشيء إذا تطابقت الجزئيات. فكيف يقتل المجرم على الملأ ؟ ما هي الإضافة التي أتت بها الثورة مع "الله أكبر" إذا نفذنا أحكام الإعدام على الملإ وفي قارعة الطريق؟ كيف نسمح لأنفسنا بالتباهي والرقص حول الجثث والتنكيل والسحل في الشوارع وجز الرؤوس في الشوارع. نعم نحن بقايا عصبيات القبائل وثقافة الثأر والدماء. إن كل الذين قتلوا وباركوا ورقصوا وهللوا وكبروا يتحملون مسؤولية هذا العرس الجبان. نعم يقتل العدو في ساحة المعركة، نعم ينفذ حكم الإعدام على كل مجرم " ولكم في القصاص حياة" لكن لا يقتل الأسير ولا يقتل المجرم بمجرد وضع اليد عليه، بل يجب أن يحاكم ويدان وينفذ فيه حكم القانون لا حكم الشوارع. إن لعنة الجهل والحقد والتشفي في شنق صدام حسين في يوم عيد الأضحى لا زالت تلاحق العراق إلى اليوم ويدفع العراقيون كل يوم قرابين هذه الجاهلية وأنهار الدماء. نعم أنا بريء من هذا المشهد الذي ينافي ثورة شعب، بل يشوهها وقد تعاطف معها كل العالم، ويحيل مخيلة كل الشعوب على دموية الثقافة الدينية وحقدها الدفين وخصوصا غياب العدالة فيها. أنا بريء من هذا الإعدام أو القتل على المباشر لأسير حرب تنهى عنه كل القوانين، السماوية منها والوضعية. فما هي إضافة هذه الثورة إن لم تكن وفية لما قامت عليه وهو احتكامها للعدل والقضاء والقانون ؟ وما هي قيمة الثورة إن هي اعتمدت نفس أسلوب الطغاة والجبابرة؟ هي شهادتي لله، أني أبرأ من هذه العدالة ومن هذا القصاص فهذا ليس قصاصا. وإني متأكد أني لست الوحيد الذي يصرخ من داخله أن هذا ليس من " الله أكبر" في شيء. أما أني سأقول لكم من أنتم، وما يحجب عنكم رؤيتكم؟ أنه تاريخكم الذي أختلط عليكم فيه الباطل بالحق، واختلطت عليكم فيه تعاليم الأرض بتعاليم السماء وسأسوق لكم جزء من هذه الثقافة التي وطنتكم على هذا العنف الدفين فيكم عكس رحمة السماء وتعاليم محمد صلى الله عليه وسلم عندما فتح مكة حيث أطلق فيها رحمة من رحمة الله بقوله " أذهبوا فأنتم الطلقاء" وقد كانوا مثلوا بجثة عمه حمزة يوم أحد، بل إن هندا زوج أبو سفيان وأم معاوية إتخدت من أعضائه قلادة تتزين بها حسب ما ترويه كتب التاريخ.. روى أبو بكر بن عياش، عن عبد الملك بن عمير قال: دخلت القصر بالكوفة، فإذا رأس الحسين بين يدي عبيد الله بن زياد، ثم دخلت القصر بالكوفة، فإذا رأس عبيد الله بين يدي المختار، ثم دخلت القصر، فإذا رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير، ثم دخلت بعد، فرأيت رأس مصعب بين يدي عبد الملك بن مروان. هذا مما جاء في كتاب: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي. نعم هي ثقافة جز الرؤوس والتمثيل بالجثث وسحلها في الشوارع. ولا شك في أن معمر القذافي كان مصيره وجزاؤه الإعدام لكنه إعدام بالحق وبالقانون لا بقتله وهو أسير وصدق الله العظيم في قوله عز وجل " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) المائدة. بين ما يقول " الله أكبر" في هذه الآية وبين ما نفعله نحن كالفرق بين السماء والأرض ولا حول ولا قوة إلا بالله. وأحمد الله أني لم أشهد هذا في بلدي، وأعتز.