مراحل الانتقال الديمقراطي، لا تحتاج إلى قوانين وتشريعات ومؤسسات فحسب، إنما تتطلب كذلك "رجالا" يتحملون مسؤولية عملية الانتقال، بل ويكونون أحد عناوينها البارزة.. "تخلى" الدكتور مصطفى بن جعفر عن "الاقامة" في قصر قرطاج، و"اختار" بمنطق التوافق التحالفي أن يتبوأ كرسي رئاسة قصر باردو حيث عهدت له مهمة "صناعة" توافق صلب مجلس فسيفسائي، تهيمن عليه معادلات حسابية، وحسابات تتراوح بين اليمين واليسار، ووسط اليمين، ووسط اليسار، ويمين الوسط..و..و.. لم يكن بن جعفر يدرك، أن هذا القصر/المجلس، ستتطاير منه شرارات السياسة والايديولوجيا، و"قذائف" النرجسيات المتضخمة، و"النيران الصديقة"، بل لم يكن يدرك وهو الطبيب المجرّب أنه سيواجه وضعيات نفسية معقدة، تحتاج إلى حصص في "بيداغوجيا الحوار"، بعيدا عن "ديماغوجيا الجدل"، وفتنة الدجل السياسي ، من هنا وهناك. استخدم الرجل ال"كاريزما" التي يتمتع بها، وحضوره اللافت، وخبرته التي اكتسبها من عضوية قيادة حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، والرابطة الحقوقية، ثم التكتل من أجل العمل والحريات، لكي "يصنع" حوارا "وفاقيا" بين العائلات المتذرّرة صلب المجلس.. واضطر في أحيان كثيرة "صاغرا" على استخدام "مطرقة الرئاسة" لفرض الانضباط بين من انتخبهم الشعب، لإيجاد نوع من الانضباط في المجتمع والدولة.. اصطف بن جعفر خلف "منطق الحوار" حينا، و"حوار المنطق" حينا آخر، وحرص على الانصات للجميع لكنه رفض تحويل "الكلام" إلى "هذيان"، وتوخى في هذا السياق سياسة "التشريك"، لكنه وقف ضد انحدار النقاش إلى منطق "التشليك"، مارس "رياضة" الصبر بقدر عال من الحنكة، لكنه رفع في مواطن عديدة شعار "للصبر حدود"، أشعل الضوء الأحمر لبعض النواب، واستخدم يافطة "ستوب" أمام آخرين ممن كانوا يمارسون بعض "الشعبوية" في المجلس. في مثل هذه المجالس والحوارات، يكون على "القائد" أن يستعمل أساليب شتى "لترويض" بعض المنفلتين، الذين يسمون انفلاتهم، حرية، وشعبويتهم ديمقراطية، وفوضاهم اختلاف، لذلك استخدم رئيس التأسيسي، الضحك والابتسامة "كمرهم" للتهدئة، ووظف "صمته" أحيانا للإشارة إلى عدم رضاه، واستدعى أساليب الجاحظ في التعليق الساخر، لكنه الهادف لوضع حد للفوضى وإن كانت كلامية، والحيلولة دون الكلام، وإن كان فوضويا.. ف"الرئيس" المجلسي شدد على إباحة الكلام، ومنع استباحته لأغراض، أصلها خارج المجلس، وفروعها داخله.. وشأن الرؤساء في قيمة الطبيب بن جعفر، أن تكون أعينهم "سخية" في حالات ووضعيات وظروف محددة.. لذلك، عندما تذكر، سنوات الجمر، وعذابات المساجين السياسيين، ومعاناة الشعب التونسي من الاستبداد والاستعباد، بكى وفاضت عيناه حزنا على رفاق الأمس، وحلفاء اليوم، ولعل ذينك العينين الخضراوين، قد فاضتا حزنا كذلك على مسار المجلس التأسيسي الذي يخشى بن جعفر ان يزيغ عن طريقه، ويكون لعبة بين أيدي "خارجية" باصابع وعقول وسيناريوهات من داخله.. سوف يكتب التاريخ القريب والبعيد، أن التحالف الثلاثي "أهدى" للمجلس التأسيسي رئيسا من "طينة" بن جعفر، ولعل الرجل، قد عوض عن التونسيين، هذه "الغمّة" التي أصابتهم من جراء بعض المداخلات والمناقشات والخزعبلات التي كان أصحابها يحرصون على تحويل المجلس إلى "كافي شانتا" متعتها في ضجيجها وهرجها و"وجع الرأس" الذي يتعالى منه..