تعود محاكمة الطاهر بن عمار إلى سنة 1958 ويعني ذلك أن أكثر من نصف قرن قد مضى على هذا الحدث ولكن من حضر اللقاء الذي انتظم مساء السبت الماضي حول هذه الحادثة يدرك كم أن القضية مازالت حية في ذهن الناس وكم هي مثيرة للاهتمام والفضول. فقد غصت القاعة بالنزل (بضاحية قرطاج ) بالحضور على اتساعها واضطر الكثيرون لمتابعة اللقاء وقوفا. لبى إذن جمع غفير الدعوة التي توجه بها كل من الفضاء الثقافي»آر ليبريس» (صلامبو) وجمعية قدماء معهد كارنو (تونس) لحضور أمسية تعود بالذاكرة إلى حادثة وقعت منذ زمن طويل لكنها بقيت معلقة ولم تفصح عن أسرارها بالكامل. كان في مقدمة الحضور السيد الشاذلي بن عمار نجل الوزير الأول الأسبق الراحل الطاهر بن عمار. وكان أغلب الحضور يتكون من عائلة الراحل ومن أصدقائها ومن أبناء الشخصيات الوطنية وكل من حمله الفضول لمعرفة حقيقة محاكمة تجمع مختلف المصادر على أنها كانت محاكمة سياسية صرفة. ولا تعتبر الأمسية المذكورة التي انتظمت في إطار المقهى الثقافي الذي ينشطه «أندري أبيتبول « وقدم خلالها الأستاذ مختار باي محاضرة مطولة حاولت أن تأتي على مختلف جوانب القضية, لا تعتبر الحلقة الأولى على درب محاولة إنصاف الطاهر بن عمار. فقد سبقت هذه الأمسية عدة خطوات من أجل رد الإعتبار لشخصية وطنية يعتقد الكثيرون وعلى رأسهم نجله بطبيعة الحال أنها ذهبت ضحية حسابات سياسية ضيقة.
ما كشفته الوثائق والتصريحات
كان الشاذلي بن عمار قد جمع كما هاما من الوثائق التي تفند الحجج التي أقتيد بسببها والده الطاهر بن عمار ووالدته إلى السجن ليقضيا خمسة أشهر كاملة تم على إثرها تبرئتهما من التهم التي وجهت إليهما ومن بين الوثائق اعترافات مكتوبة لأسماء بأنها لم تدل بشهاداتها حول القضية. وكان الشاذلي بن عمار قد بعث منذ فترة موقعا على الإنترنيت لأجل لذلك، كما أنه كتب نصوصا نشرت بعدد من المواقع الإعلامية وهو مازال يطالب بإعادة فتح القضية لأنه يعتقد أنها وحدها -إعادة فتح القضية- كفيلة برد الإعتبار لوالده وإنصافه أمام الشعب وأمام التاريخ. وكان الأستاذ مختار باي قد انتهى في محاضرته التي قدمها باللغة الفرنسية خلال الأمسية المذكورة إلى نفس النتيجة. فقد قال أن مراجعة القضية لا بد منه إذا ما أرادت العدالة أن تكون عادلة في هذا الشأن. وإذا ما عدنا إلى أصل القضية فإن التهم التي وجهت للطاهر بن عمار تمثلت حسب النصوص التي حوكم بسببها في التهرب من الآداءات والإستثراء اللاشرعي وعدم التصريح بكامل ممتلكاته ومعاداة النظام السياسي الجديد الذي كان يتزعمه الرئيس الحبيب بورقيبة وقد استند في هذه التهمة إلى العثور على علبة مجوهرات (تبين فيما بعد أنها تحتوي فقط على عقد من ذهب وخلخال) كانت احدى بنات البايات قد عهدت بها إلى بيت الطاهر بن عمار( بين العائلتين علاقة مصاهرة ) وتركتها أمانة لديها ثم تبين أثناء التحقيق أن الطاهر بن عمار لم يكن حتى على علم بوجود العلبة في بيته). وجهت للطاهر بن عمار كذلك تهمة رفض فكرة تحويل الشرطة (الوجق التي كانت تحت سلطة الباي ) إلى سلطة الحكومة واستنادا لهذه التهم وقعت مداهمة بيت الطاهر بن عمار بتونس العتيقة وتم تحويله صحبة زوجته على القضاء وحكمت المحكمة عليهما بالسجن ودفع خطية مالية كبيرة ( حوالي 3 مليون فرنك آنذاك).
حقيقة علبة مجوهرات البايات
وتم اطلاق سراحه وزوجته بعد خمسة أشهر بعد أن تبين أن الأدلة باطلة والتهم مبنية على حجج واهية حتى أن بورقيبة عمد إلى توسيمه سنة 1967. لكن عائلة الطاهر عمار( التي لم تسترجع مبلغ الخطية) أكدت أن كل ذلك ليس كافيا لرد الإعتبار للرجل ولعائلته بعد المساس من سمعته والتشكيك في مسيرته النضالية وتدمير مستقبله السياسي. وقد ذكر المختار باي وهو دكتور في العلوم السياسية ومن قدماء معهد كارنو بالعاصمة في محاضرته بهذه التهم ووقف عندها بالتفصيل مستحضرا الأحداث والأسماء سواء تعلق الأمر بالمتهمين أو بالمحققين ومن شهد في القضية وحتى من تراجع عن أقواله معددا الثغرات القانونية في القضية جامعا بذلك الأدلة التي جعلته يقر بلا تردد بأن المحاكمة كانت سياسية صرفة. وفي تحليله المطول المدعم بالأدلة والتفاصيل أوضح الأستاذ المختار باي أن نشأة الطاهر بن عمار (من أسرة قادمة من الشرق الأوسط) وعراقة عائلته وثرائها ونضاله ضد المستعمر خاصة ضمن الحزب الحر الدستوري وامضائه على بروتوكول الإستقلال الداخلي سنة 1955 ثم الإستقلال التام سنة 1956 كلها عناصر جعلت الزعيم الحبيب بورقيبة يرى فيه منافسا خطيرا مما جعله يسارع بالقضاء عليه سياسيا من خلال القضية المذكورة. واعتبر الأستاذ مختار باي أن وقوف الوزير الأول السابق أمام المحكمة العليا دليل على أن المحاكمة كانت سياسية. وهو يتساءل لماذا المحكمة العليا بالذات. وفي محاولته الإجابة عن هذا السؤال قال أن اللجوء إلى المحكمة العليا يفسره أن هذه الأخيرة تعود بالنظر مباشرة إلى الدولة وأنها تأتمر بأوامر السلطة القائمة. ثم إن أحكامها لا تحتمل الاستئناف أو النقض.
بورقيبة والعوامل النفسية
خطورة التهم الموجهة للرجل من بينها معاداة السلطة الجديدة والتي كانت ستعرضه حتى للحكم بالإعدام تشي بأن المحاكمة كانت سياسية أضف إلى ذلك أن الرجل تم اقتياده إلى السجن المدني بالعاصمة مقيد اليدين رغم أنه كان يتمتع بالحصانة البرلمانية فقد كان نائبا بالمجلس الوطني التأسيسي. أما السؤال الذي انتظر الحضور إلى نهاية المحاضرة من أجل الظفر بإجابة عليه فهو يتمثل في الآتي: لماذا تمت محاكمة الطاهر بن عمار على تهم تبين فيما بعد أنها واهية وملفقة ولماذا الإصرار على المحكمة العليا ولماذا بقيت المحاكمة بلا مراجعة إلى اليوم؟؟؟. يرى المختار باي في محاولته الإجابة على السؤال أن الزعيم الحبيب بورقيبة وبعد اضطلاعه بدور حاسم في مقاومة الإحتلال لم يعد يحتمل بعد توليه مقاليد البلاد وجود أي طرف يرى أنه يمكن أن ينافسه في يوم ما على السلطة. والطاهر بن عمار حسب نفس المتحدث كان يجمع الصفات التي تجعله ينافس بورقيبة على موقعه في البلاد. ورأى المحاضر أنه كان للعوامل النفسية دورها في القضية. فالزعيم بورقيبة وحسب نفس المتحدث كان يشعر أنه تجمعه مع تونس علاقة انصهار إلى درجة أنه لم يعد يفصل بين شخصه وبين البلاد فهما واحد. ولم يتفرق شمل الحضور بعد انتهاء المحاضرة التي كانت دقيقة وتشتمل على تفاصيل كثيرة فقد دار نقاش تبعه جدل كما هو معتاد كلما اهتم الجمع بتاريخ الزعيم بورقيبة بين مؤيد له ومنتقد بشدة لأخطائه. المختار باي أجاب على هذا وبهدوء تام قائلا: لقد كان بورقيبة رجلا استثنائيا لكنه ارتكب أخطاء.