بقلم: عبد الرزاق قيراط يرقى الحشد الذي انتظم بالمنستير بإشراف قايد السبسي إلى مستوى المهرجان الانتخابيّ، و قد تزامن مع إعلان الترويكا عن نيتها تنظيم الانتخابات في مارس المقبل من سنة 2013. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ ذلك الحشد الذي ضمّ قرابة الخمسين حزبا و أكثر من خمس مائة جمعيّة كان تجمّعا استعراضيّا لا بالدلالة اللغويّة لكلمة تجمّع فحسب و إنّما بالمعنى الاصطلاحيّ الذي يحيلنا على حزب تمّ حلّه بعد الثورة ، وتجري الآن محاولات لبعثه من جديد تحت راية «الفكر البورقيبيّ». وقد ذكّرنا المشهد الذي بثته القناة الوطنيّة في نشرة أخبارها بقبّة المنزه حيث كانت الجماهير المتواطئة تُحشد لترديد الهتافات بحياة بن علي وحزبه. في المنستير، هتف الناس أيضا و احتفلوا بأحد رموز البورقيبيّة، و لكنّ ما يثير السخرية و العجب في آن واحد هي العودة القويّة إلى خطابات المديح و الإعلاء من شأن بعض الشخصيّات بإسنادها صفة الزعيم الأوحد والقائد الملهم الذي «أوصل تونس إلى اليابسة» كما قال أحمد نجيب الشابي عن قايد السبسي وأضاف في تصريحه للقناة الوطنيّة أنّه يتمتّع « برصيد كبير من الثقة لدى الشعب التونسيّ بفضل نجاحه و خبرته و ثقافته الواسعة، وهو بذلك الرصيد شخصيّة نضاليّة كبيرة قادرة على تجميع العائلات الوسطيّة». لا يفاجئنا نجيب الشابي بهذا التصريح، فقد أيّد سابقا مبادرة قايد السبسي و امتدحه على إثر إعلانها، و كان له حراك لا يهدأ لابتلاع الأحزاب التي توصف بالحداثيّة و التقدميّة و تكوين حلف قويّ يكون قادرا على الفوز و الإطاحة بحركة النهضة في الانتخابات القادمة. والصفة الجديدة التي صارت تروق لهذه الأحزاب وتتخذها غطاء يجمعها و يؤلّف بينها هي صفة الوسطيّة. وقد تعدّدت المبادرات و المؤتمرات التوحيديّة، ولكنّها كانت على ما يبدو للتسويق الإعلاميّ، أوما يمكن وصفه بالإشهار السياسيّ الذي لم يأت بنتيجة تذكر في الانتخابات السابقة. فأغلب تلك الجهود التوحيديّة لم تتبعها خطوات عمليّة تدلّ على انصهار حقيقيّ بين تلك التيارات التي ينطبق عليها قول الله تعالى « تحسبهم جميعا و قلوبهم شتّى»(سورة الحشر/ آية 14) . و لعلّنا نتساءل مرّة أخرى عن مصير الحزب الديمقراطي التقدّمي بقيادة الشابي الذي يصفّق لجميع المبادرات و يعلن المشاركة فيها و آخرها مبادرة المنستير المسمّاة «آفاق تونس الغد». و هي كغيرها «منهج سياسيّ و عمل حزبيّ مشترك لرصّ صفوف المعارضة» التي ستقتبس من فكر الزعيم بورقيبة و من بقاياه ّ ما يساعدهم على تكوين تلك القوّة الوسطيّة المنشودة. فهل سيلتحق الشابي بهذه المبادرة ليكون تابعا لقايد السبسي خاضعا لإمرته أم أنّه سيفضّل مبادرته السابقة التي تضمّ مجموعة من الأحزاب الصغيرة منها حزب آفاق تونس، و التي أعلن أنّها ستؤسّس للحزب الوسطيّ الكبير؟ لقد أصبحت عبارة الوسطيّة على كلّ لسان، وللتعمّق أكثر في مدلول الكلمة، نفهم من تصريح عياض بن عاشور الذي كان حاضرا في مبادرة قايد السبسي أنّ حكّام اليوم هم أقرب إلى تحالف متطرّف بقوله إنّ « تونس اليوم مهدّدة في تحديث البلاد و في تحديث فكرها السياسيّ و تصوّراتها المستقبليّة». و الواضح في هذا التصريح و في غيره ممّا يقال في السرّ و العلن أنّ الهدف الأوّل و الأخير للوسطيّين الجدد ليس المساهمة بالبرامج و الخطط العمليّة لخدمة هذا الوطن، بقدر ما هو التوحّد ظاهرا أو باطنا تحت مسمّيات توحي بتحويلها إلى قوّة قادرة على منافسة حركة النهضة التي عبّرت من جهتها على تشجيعها لتلك المبادرات لخلق معارضة قويّة تكون ضامنا للديمقراطيّة الحقيقيّة وللتداول على السلطة. و لكنّ المبادرات التي ظهرت إلى حدّ الآن لم تنجح في إضعاف خصمها و لا تبدو قادرة على اختراق التحالف الحاكم الذي يبقى متماسكا رغم المحاولات التي شكّكت في استمراره. ولعلّنا نتساءل من كان أكثر ذكاءً من الأحزاب الصغيرة؟ أهي المتحالفة مع النهضة و شريكتها في الحكم أم المتحالفون ضدّها؟ إنّ المعارضة لن تكون قوّة حقيقيّة ببعض الشعارات البرّاقة التي ترفعها، و تغيّرها بسرعة عجيبة، فقد كانت منذ سنة تدّعي أنّها حداثيّة وطالبت في جدل مبكّر بمدنيّة الدولة و إلغاء الفصل الأوّل من الدستور الذي يعتبر الإسلام دينا لها، ثمّ أصبحت تفضّل شعار الوسطيّة و تقول بالوفاق حول ذلك الفصل مندّدة بمن يقسّم الشعب التونسيّ إلى مسلمين و كفّار، وهي اليوم بوسطيّتها الجديدة تريد أن يكون الفكر البورقيبيّ مرجعيّة لها، و لعلّها بعد أيّام ستنادي مع الآخرين بأن يكون الإسلام مصدرا للتشريع في دستورنا الجديد، و كلّ ذلك يؤكّد أنّ المعارضة تفتقر إلى رؤية و برنامج ما دام الهدف الذي يوحّد شتاتها هو الإطاحة بمن هزمها لا بالبرامج و إنّما بالشعارات. و بهذا الأسلوب العقيم الذي يستعجل الوصول إلى السلطة، يسقط الحراك السياسيّ الذي نعيشه في تونس اليوم في مستنقع الصراع الأيديولوجيّ مرّة أخرى مع تحوّل نوعيّ في مستوى الخطاب الذي نسمعه من النخبة السياسيّة. فقد صار الجميع ينادي بالوسطيّة فيدّعيها لنفسه ويرمي غيره بالتطرّف. لكنّ الفوز في الانتخابات القادمة يقتضي تحويل الشعارات الجميلة إلى برامج مقنعة، و حينها سيقرّر الشعب وحده من الوسطيّ و من المتطرّف.