بلهجة الزعيم الواثق من نفسه، تحدث رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عما وصفها ب"ديموقراطية المحافظين" مشيدا بالنموذج التركي كمثال يحتذى به في الشرق الأوسط. رئيس الوزراء التركي الذي كان يتحدث في حضور الرئيس المصري محمد مرسي وخالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" ونحو سبعين من قادة وممثلي الدول الذين واكبوا مؤتمر حزب العدالة والتنمية، تحدث على مدى ساعتين ونصف الساعة، بعد أن خلع البدلة الرسمية ووقف مستعرضا برنامج حزبه للسنوات القادمة مسوقا لدستور أكثر تنوعا ولتركيا كقوة ديموقراطية صاعدة مرددا أن حزبه الحاكم ذي الجذور الإسلامية أصبح نموذجا للعالم الإسلامي بعد عشر سنوات في الحكم... قبل عام ونصف العام، ومع سقوط أول حلقة من مسلسل الدكتاتوريات المتمرسة في العالم العربي، سادت حالة من التفاؤل والتطلع إلى مستقبل أفضل لشعوب المنطقة، التي بدأت استعادة انسانيتها وكرامتها المصادرة، ومع امتداد موجة الثورات من تونس إلى مصر وليبيا واليمن، تواترت القراءات وتعددت السيناروهات والطروحات حول المستقبل، وبدأ الحديث عن النموذج التركي بزعامة أردوغان يطغى على المشهد ويتحول إلى مشروع دراسة للأحزاب الاسلامية العائدة من السجون والمنافي والطامحة للسلطة في مرحلة ما بعد الدكتاتوريات الزائلة، وقد كان لجولات أردوغان في دول الربيع العربي ما عزز القناعة برغبة لدى الاحزاب والحركات الاسلامية التي سيطرت على المشهد بالاقتداء بالتجربة التركية والاستفادة من عقد كامل من سيطرة حزب العدالة والتنمية على السلطة في تركيا، لا سيما في ما يتعلق بمدنية الدولة والخيار التركي للفصل بين الدين والدولة. والواقع ان تلك الرغبة أغرت الكثير من المتتبعين للمشهد السياسي في دول الربيع العربي وأولها تونس بالانتصار للنموذج التركي لعدة اعتبارات أهمها تفادي الانسياق وراء التجارب الفاشلة والسقوط في قبضة التشدد والتطرف والعودة بالتالي إلى نمط آخر من الدكتاتورية المقنعة المتخفية وراء ستار الدين. طبعا لسنا بصدد السقوط في رصد انجازات ومكاسب النموذج التركي على مختلف الاصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بما في ذلك واقع الاعلام والحريات على مدى عقد من حكم حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان، ولا أيضا بتقييم موقع تركيا اقليميا ودوليا، ولا بانتمائها مستقبلا إلى الاتحاد الاوروبي، ولكن الامر يتعلق بما هو أبعد من ذلك، وهو مدى استعداد الاحزاب الاسلامية الصاعدة للاستفادة من تجربة رائدة في العالم الاسلامي، استطاعت أن تشذ عن مختلف الانظمة القائمة في منطقة الخليج، وأن تشكل قوة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط تحسب لها إسرائيل حسابا، وقوة اقتصادية يحسب لها الاتحاد الاوروبي ألف حساب... والواقع أن في تنوع واندماج وانفتاح المجتمع التركي ما دفع الكثيرين للاعتقاد بأن التجربة التركية قد تكون المنطلق في التجارب الناشئة في دول الربيع العربي. وقد كان لجولة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في عواصم الربيع العربي وما حظي به من حفاوة وتبجيل من جانب القيادات الصاعدة، ما أقنع الكثير من المتخوفين والمشككين في نوايا وإرادة الأنظمة الاسلامية الصاعدة، بأهمية دراسة التجربة التركية لإنجاح مسار الديموقراطية الناشئة في دول الربيع العربي. على أنه من المهم الاشارة إلى أن ذلك الاهتمام بالتجربة التركية سرعان ما انطفأ وتراجع حتى غاب عن تصريحات وحوارات قيادات الاحزاب الاسلامية التي كانت تروج وتسوق للتجربة التركية. والحقيقة أن تراجع الاهتمام والتركيز على النموذج التركي كان متوقعا منذ أول زيارة لأردوغان في سبتمبرالماضي إلى تونس ومصر وليبيا، فإذا كان قد استقبل بالاحضان فإن نهاية الجولة لم تكن كذلك، بل ان الحشود التي كانت تتسابق إلى استقباله والصلاة على قارعة الطريق في انتظار وصوله قد غابت عن توديعه، والسبب وراء ذلك تصريحات رئيس الوزراء التركي التي لم ترض شريحة واسعة من الاسلاميين والذين لم يستسيغوا دعوته للعلمانية وتمسكه بمبدأ علمانية الدولة... لقد بات من الواضح اليوم ان النموذج التركي لم يعد يحظى بنفس الدرجة من التأييد لدى الاحزاب الاسلامية الحاكمة وأن تركيا العلمانية باتت لدى من كانوا يعتبرون من معجبيها محل انتقادات كثيرة بسبب خياراتها السياسية وتوجهاتها المبالغة في الانفتاح. بل ان رئيس الحكومة التركي عمدة اسطنبول السابق -الذي نجح في الفوز بثلاث ولايات انتخابية متتالية- لم يعد ذلك الملهم وهو الذي كان يعد مثالا يحتذى في مسيرته السياسية الطويلة وفي عقليته الاسلامية المتطورة انطلاقا من تجربته الجامعية وانضمامه الى حزب الخلاص الوطني بقيادة أربكان وغيابه ثم عودته الى الساحة السياسية بعد انقلاب 1980، ومنه العودة الى تجربة حزب الرفاه الذي قاده ليكون عمدة اسطنبول قبل اتهامه مجددا بالتحريض بسبب كلمات شعرية في خطاب حماسي أعاقت مسيرته مجددا عندما صرخ "مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا، والمصلون جنودنا...". وبعد حظر حزب الفضيلة كان أردوغان على رأس حزب العدالة ليقود تركيا طامحا الى ان تكون قوة اقليمية في المنطقة حتى لو لم يكتمل انضمامها الى الاتحاد الاوروبي... أردوغان اليوم لم يعد ذلك المثال المطروح للأنظمة التي أفرزها الربيع العربي والتي باتت تجد في المتشددين والسلفيين حليفا وربما مثالا...