تنطلق أيام قرطاج السّينمائية اليوم في دورة جديدة ومن المفروض أن تكون السّعادة كبيرة بهذا الحدث الثقافي المنتظر الذي من المفروض كذلك أنّه يستفز في الجمهور الرغبة في التحرّر من دائرة الإهتمامات المحصورة في أساسيات الحياة اليومية ولكن للأسف فإن بقعة الزيت التي تسربت إلى محيطنا ما فتئت تتوسع وتهدد بتلويث كل شيء من حولنا وتحول دوننا ودون القدرة على الإحتفاء بمنتوج فني ابداعي وتقف دوننا ودون الإستسلام إلى الحلم الذي يدعونا إليه الفن السابع. السينما هي بالأساس فرجة وعالم من الخيال يسرقنا من عالم الواقع المليء بالمنغصّات ولكن الحقيقة صارت اليوم أكثر إثارة من الخيال. بقعة الزيت المتكونة من الآلام ومن الأوجاع ومن الجروح العميقة الناتجة عن الخيبات المتتالية في أن ننعم في يوم ما بحياة هادئة تقوم على الحرية وعلى الكرامة وعلى الإحترام وتنسينا مشاهد الدم واستعمار العقول ومصادرة الحريات والمتاجرة بالمستقبل حتى لتكاد تطفو على كامل المحيط. والسؤّال أيّ فيلم بقادر اليوم مهما أبدع أصحابه في سرقتنا من عالمنا العربي المليء بالدماء والأوجاع والأحلام الضائعة. بعد أن استقر اليأس فينا وودعنا فكرة أن نرى العراق ينتفض من تحت الرماد بعد محنة الحرب والإستعمار، ها أننا نعدل ساعتنا منذ أشهر على حقيقة أخرى تزيد الوجع وجعا. يوميّا ومنذ أشهر تسقط المئات من الأرواح في سوريا وتتشرّد العائلات ويتفاقم الإحساس بالألم وبالعجز خاصة وأنّ المتقاتلين أبناء وطن واحد وهو ما يجعل الجرح أعمق. ربما توهم الكثيرون للحظة أن ما يسمى بالرّبيع العربي ينبئ بحلول زمن العرب والمسلمين ولكن سرعان ما استفاقت المنطقة على أن الربيع يأبى أن يستمرّ بيننا وأن الخريف أشد حرصا علينا. ماذا فعلنا بثوراتنا العربية وانظروا كيف تم الزج بشعارات الحرية والكرامة والديمقراطية للعرب والمسلمين في الدرج وها أن غزة تنزف من جديد وها أن اسرائيل تمعن في أعمال مشرطها في جرح الأمة العربية وتستمر في حرق أعصاب أبنائها بمواصلة استعمارها للأراضي الفلسطينية وبالتفنن في قتل الفلسطينيين الصغير منهم قبل الكبير في عمليات موجهة ومدبرة بشكل ممنهج ووفق برنامج جهنمي يسعى إلى ضرب مستقبل فلسطين بالتوازي مع المحاولات المستمرة في تسميم حاضر الأرض السليبة أمام صمت مطبق للعرب والمسلمين. أي فيلم بقادر على تصوير مشاهد في قيمة وقوّة المشاهد الطبيعيّة والحيّة التي نعيشها يوميّا. أي فيلم بقادر على أن يتخيّل وضعا قاتما مثلما نعيشه في الواقع على شاشة أكبر بكثير من الشاشة الفضية. أي فيلم بقادر على أن يكون صادقا في وصف الأوجاع والآلام والحيرة المتلبّسة بأبناء الأمة العربية والإسلامية التي ما إن يلوح لها أمل حتى تحصده الدّارسات وتقضي عليه الجرّافات مثلما نشاهده بأم العين على الأرض في حياتنا اليومية التي تتسارع فيها الأحداث ويرتفع فيها النسق إلى درجة لا طاقة للسينما بها. أي سينما بقادرة على تأجيج ذلك الكم من العواطف على غرار ما يحدث للعرب والمسلمين إزاء مشاهد الدم التي صارت شبه يومية في حياتنا. أي فيلم بقادر على وصف حالة اليأس وضياع الأحلام مثلما تفلح فيه مشاهد من حياتنا اليومية وخاصة تلك التي تتعلق بنفض اليدين من الأحلام التي ولدت مع الثورات العربية. حياتنا اليوم سينما لا تستطيع المدارس السينمائية الواقعية منها والثورية والرومانسية والإجتماعية والسياسية وغيرها من مختلف التيّارات والمدارس أن تضاهيها من حيث دقة المشاهد ووضوح الصورة. لا تضاهيها في إثارتها وفي القدرة على الخلق والإبداع فأيّ خيال بقادر على أن يبدع تلك المشاهد التراجيدية من صنع يدي أبناء هذه الأمة وأي خيال بقادر على أن يصور حالة العبث ذلك الخبز اليومي لجزء كبير من أبناء الأمة بنفس درجة الإبداع. أي ابداع سينمائي بقادر على تشخيص حالة القبح التي أصبحت عليها حياتنا في كثير من الأحيان بعد أن صرنا نبدع في إيذاء أنفسنا ومحاصرة مستقبلنا ونخطط لضياع هذه الأمة بالكتم على النفوس ومصادرة العقول وسلب الحريات وتكبيل الأجساد وبقصر النظر وباختيار الإستراتيجيات أكثرها فشلا. هل مازلنا بعد هذا في حاجة إلى سينما؟ حياة السايب