قد لا يكون في الإعلان عن انشقاق جهاد مقدسي الناطق باسم الخارجية السورية ولجوئه إلى لندن عبر بيروت آخر الإشارات عن تآكل النظام السوري المكابر. بل ربما يكون في هروب «صحّاف» سوريا الذي يبدو أنه أدرك ولو متأخرا نهاية النظام السوري، الذي أصيب بعمى البصر والبصيرة، دخول الصراع في سوريا حلقته الأخيرة بعد أن رفض هذا النظام أن يتعظ بما يحدث من حوله فآثر تدمير سوريا وتدمير نفسه ليكون نيرون عصره وقد كان بإمكانه تحصين سوريا وتجنيب الشعب السوري الخيارات المدمرة وإبعاد السيناريو الليبي ونهاية القذافي عن سوريا.. بالأمس، ولأول مرة منذ بداية الأزمة في سوريا، وجه الرئيس الأمريكي باراك أوباما تحذيراً لنظام الرئيس السوري بمواجهة «عواقب وخيمة» إذا أقدم على استخدام أسلحة كيمياوية ضدّ «الثوار»، وهو تحذير لا يمكن أن يمرّ دون أن يثير في الأذهان تحذيرات مماثلة سبقت اجتياح العراق قبل نحو عقد من الزمن عندما خرج جورج بوش الابن محذرا العالم من ترسانة أسلحة الدمار الشامل في العراق ودفع مجلس الأمن الدولي الى إعلان قراره بشن حملة عسكرية على البلاد انتهت بأكثر من مليون ضحية عراقية دون اعتبار الخراب والدمار الذي لحق البلاد والعباد، ليفاجأ العالم بعد ذلك وبعد فشل مختلف لجان التفتيش واستباحة المواقع الاستراتيجية في العراق، بالكذبة الكبرى ألا وهي تبخر تلك الأسلحة وعدم وجودها خارج تقارير المفتشين الأمميين، لكن بعد أن تمّ هدم العراق وإعادة أهله عقودا الى الوراء وإسقاطه في محن الحرب الأهلية والصراعات والانقسامات والاقتتال اليومي الذي لا يبدو أنه سينتهي قريبا. اليوم، السيناريو نفسه يبدو أنه بصدد التكرار، حيث يقوم سيد البيت الأبيض بعد نحو أسبوعين على فوزه بولاية رئاسية ثانية بإطلاق تحذيرات لا نخالها غريبة أو مختلفة عن تلك التي أطلقها بوش الابن ولكنها موجهة هذه المرّة للنظام السوري، في رسالة واضحة بتحرّك دولي وشيك في حال استعمال سوريا الأسلحة الكيمياوية ضدّ خصومها. على أنه من المهم الإشارة الى أن هذا التحذير ليس بمعزل عن الأحداث الدائرة في سوريا وفي المنطقة، ولعل النقطة الأولى التي لا يمكن تجاهلها أو التقليل من أهميتها تتعلق بمشهد الموت اليومي والدمّ السوري الذي لا يكاد يتوقف عن التدفق والإهراق دون استثناء أحد تقريبا وبلا تفريق بين مدنيّ وعسكريّ ولا بين طفل أو مسن ولا بين رجل أو امرأة. فالمجازر اليومية في سوريا باتت تفوق كل التوقعات والتصورات، ولا أحد اليوم بإمكانه أن يعرف كم يتعين على الشعب السوري أن يقدم من الضحايا والقرابين قبل أن يستعيد كرامته وحريته وأمنه. أما حالة الخراب والدمار فتلك مسألة أخرى لن تنكشف تداعياتها أمام اختلاط الأوراق واحتدام الصراع بين الجيشين النظامي و»الحرّ» الذي بات يهدّد القوات النظامية في معاقلها ويزحف يوما بعد يوم إلى مشارف العاصمة دمشق ويسيطر على المطارات والطرق الرئيسية. أما النقطة التالية التي وجب التوقف عندها فهي مرتبطة بالتوافق الحاصل بين تحذيرات الرئيس الأمريكي باراك أوباما وتلك التي أطلقها الأمين العام للحلف الاطلسي -الذي خرج بدوره ولأول مرّة ليؤكد على حتمية الردّ على أيّة محاولة من الجانب السوري لاستعمال الأسلحة الكيمياوية ضدّ رجال وقوات المعارضة -الأمر الذي من شأنه أن يوحي باحتمال تحرّك «الناتو» لفرض حظر للطيران فوق سوريا على غرار ما حدث في ليبيا تمهيدا لتدخل وشيك ولا سيما مع استعداد تركيا لاستقبال صواريخ «باتريوت» لتعزيز دفاعاتها المضادّة للطائرات على حدودها مع سوريا. كل ذلك إلى جانب إعلان الأممالمتحدة سحب قواتها من سوريا وتصريحات الأمين العام لجامعة الدول العربية ومواقف المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي قد تؤشر إلى دخول سوريا منعرجا جديدا وأن المعركة الحاسمة باتت على الأبواب وأن المشهد قد يتجاوز كل القراءات والتوقعات والسيناريوهات القاتمة. وفي انتظار ما ستحمله الساعات القليلة القادمة بعد اعتراف الجامعة العربية بالائتلاف الوطني ممثلا وحيدا للمعارضة السورية ومحاورا، يبدو أنه سيكون من الغباء والسذاجة توقع حدوث أيّ تراجع في الموقف الانتحاري للنظام السوري.. ولكن لا بدّ من القول أن ما سيتعين التعامل معه مستقبلا في سوريا ما بعد الأسد أمر يستوجب تفوّق الوطنية لتكون سيّد المشهد ونقطة التقاء كل السوريين دون استثناء بمنأى عن كل الحسابات والصراعات والانقسامات التي قد تتجاوز، إذا ما حكمت المشهد، كل مخاطر الانقسامات الحاصلة في العراق المجاور أو دول الربيع العربي من تونس إلى ليبيا ومصر واليمن. إن سقوط الأسد أمر حاصل بعد أن بات معزولا ومنبوذا وهو الذي استباح دماء الشعب الذي نصب نفسه عليه زعيما، ولكن سقوط سوريا أمر لا يمكن احتساب عواقبه لأنه بكل بساطة سيكون نكبة النكبات التي لا يمكن احتمالها.. ومرّة أخرى نقول أنه بات لزاما على المعارضة في هذه المرحلة استباق الأحداث والاستعداد للمرحلة القادمة وتجنيب الشعب السوري مزيد الجروح والآلام وهو الذي ينظر إلى تجارب غيره من الشعوب العربية على طريق الديمقراطية الموعودة بكثير من الشكوك والريبة...