- وأخيرا صدر في معرض القاهرة عن داري التنوير (القاهرة - بيروت) ومحمد علي الحامي (صفاقس) مؤلف يوسف الصديق المعرّب عن الفرنسية (تعريب منذر ساسي). وبهذه المناسبة دُعي المؤلف من قبل منظمي هذا المعرض لإلقاء محاضرة مفتوحة للنقاش حول "الإسلام والسياسة"، ومن وحي كتابه المعنون في نسخته العربية ب"هل قرأنا القرآن؟ أم على قلوب أقفالها؟". كان هذا الكتاب الصادر سنة 2004 مقدمة لنمط جديد في قراءة نص القرآن الكريم، اعتمادا على العلوم الإنسانية الحديثة وعلى إرادة في استكشاف القرآن وحده قبل اللجوء إلى ما اصطلح على تسميته بعلوم القرآن التي جاءت متأخرة عن زمن نزول الوحي. فرهان المؤلف هو في اعتبار هذا النص المؤسس نصا لا بدّ أن يُقرأ كما لو أنّه نزل اللحظة فتلقاه المؤمن المعاصر خاصة والقارئ عامّة بما يملكه اليوم من أدوات البحث والدراسة والرؤية الفلسفية التي طالما حيّدت وأبعدت عن رحاب التدبّر في قراءة القرآن. وليس الشأن مع يوسف الصديق بمختلف عمّا كان متاحا من أدوات لدى الدارسين الأوائل في عصورهم المتتالية. وفي هذا المقال يتناول كاتب هذه السطور مسألة راهنة في توظيف الديني في الحقل السياسي وما ينتج عن ذلك من التباس حجب عنا سبل القراءة لصالح تقليد التلاوة. لا بدّ من القول أوّلا إنه لا وجود لكلمة "شريعة" في القرآن الكريم متضمّنة لمعنى "قانون" أو فعل "مشرّع" بالدلالة التي نعرفها اليوم، ولا بمعنى "نظام محكم ومختوم من القوانين"، كما ألفنا سماعه عند عموم المسلمين. فالموضع الوحيد الذي وردت فيه هذه اللفظة ينبئنا بأن الله تعالى "سحب" ما كان قد عهد به لبني إسرائيل من تفضيل لهم على العالمين، موجها خطابه لليهود المعاصرين لرسالة النبيّ محمد (ص). وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ. وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ." (الجاثية 16- 18). ليست الشريعة المذكورة في هذه الآيات سوى تلك الأمانة الإيطيقية (الإيطيقا: أسس الأخلاق) التي عُهدت للنبيّ محمّد (ص) بعد أن تخلّى عن حملها بنو إسرائيل، ولن يُبتّ في أمرهم ذاك كما يشير النص صراحة إلاّ في عالم الغيب والشهادة الّذي لا حاكم فيه سوى الله. كما تعرضت هذه الآيات لكلمة "أمر" التي يتراوح معناها من الدلالة الأكثر كثافة وثراء في معنى ال"كن" الخالق إلى أبسطها والذي يفيد الشيء في مستواه المبهم وغير المتعيّن. فإذا صرفنا النظر عن المعنى الأول الذي يفيد القضاء الإلهي، فكلمة "أمر" فيما عدا ذلك ليست إلاّ مرادفا لكلمة "Res" اللاتينية، أي الشيء والشأن، كما تتضمّنه كلمة "Respublica" (أي الشأن العام). صحيح أن أغلب السياقات القرآنية التي أوردت هذه الكلمة كانت تدور حول الملك الدنيوي، أو السياسة بالمعنى الحديث، غير أنّه، وعلى خلاف ما ذهب إليه من ظنّ أنّ القول القرآني نظام قانوني جاهز للتطبيق، لم ترد هذه اللفظة إلاّ في علاقتها بشؤون الناس المدعوّين أصلا إلى مراجعتها والتشاور فيها: "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقونَ." واضح هنا التمييز بين المستوى التعبّدي المتجه عموديا من المخلوق إلى الخالق، وبين مستوى الشؤون العامة التي تربط الناس بعضهم ببعض، ذي البعد الأفقي والذي شاء المولى أن يتركه شأنا يُفترض أن يتشاور فيه الناس وحدهم فيما "بينهم" بصريح النص. يبدو هذا المعنى "الديمقراطي التشاركي" -وإن في عصر متقدّم- جليّا في تلك الآيات التي تقصّ نبأ ملكة سبأ حين التمست من مؤسسة "الملأ"، أو "البرلمان" رأيا تواجه على أساسه شروط النبيّ الملك سليمان ووعيده وغيظه ممّا تقوم عليه مملكتها من بهرج وعظمة: "قَالَتْ يَا أَيّهَا الْمَلأ أَفْتونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَى تَشْهَدُونِ". بعد أن آلت إلى النبيّ محمد (ص) هذه الأمانة الإيطيقية المعبّر عنها ب"الشريعة"، لم يعد مخصّصا بموقع سلطوي ولا بآخر يجعل ما أوحي إليه مصدر إنتاج قانوني دنيوي، بل صار شاهدا على تلك الهبة الإلهية الوارد ذكرها صراحة في الآيات أعلاه، وذلك ما تؤكده أيضا آية تقول السير وكتب الحديث إنها أبكت الرسول حين تُليت على مسمعه: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا". إنّ الذين يريدون فرض فكرة تشريع ثابت إنما يقعون في تعسّف آخر على اللغة بتصوّرهم لمنظومة تشريعية أُمليت على الناس من لدن الذات الإلهية الأبدية. ذلك التعسف الذي يحرّف كلمة "سنّة" عن معناها الوارد في القرآن لتصبح مصطلحا تقنيا مألوفا محنّطا حتى في لغات أجنبية، دفع بكلّ المفسرين المتقدمين منهم والمتأخرين إلى اعتبار السنّة التي فُهمت على أنها رافد من الأقوال والسلوكات النبوية لفهم القرآن، هي كذلك الضامن الأقوى لتوضيح ما تشابه في الكتاب المنزل وجعله أساسا يقوم عليه كلّ فعل تشريعي دنيوي. فلئن اكتفينا بالمعنى الوارد للفظة سنة بلغة القرآن، فما تراها الجدوى من إضفاء معان أخرى لها كتلك التي جاءت في فترات متأخرة عن زمن نزول الوحي؟ إذ أنّ الاستخدام القرآني لهذه الكلمة لا يفيد غير دلالة واحدة هي "مجموعة قوانين" يراد أن تكتسي تارة بعدا إيجابيا في الحديث عن الفعل الإلهي في التحكم في عناصر خلقه، وترد تارة، ومن خلال صيغتيها جمعا (سنن) ومفردا (سنة)، على نحو سجالي إشارة إلى بطلان عهد الأعراف والتقاليد والقوانين والأحكام السابقة لمجيء الإسلام، كما في آية: "قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ". كذلك وعلى نحو إيجابي فإن لكلمة "سنة" قوّة المفهوم بالمعنى الفلسفي للفظ كما استعملت في عصور متأخرة في النظريات الحتمية كنظرية التناغم القبْلي في الكون عند ليبنيتز أو في فكرة العدالة الإلهية عند سبينوزا وكنط مثلا. هكذا نقرأ، تحت هذه الدلالة الفلسفية، كلمة سنة في العديد من السياقات القرآنية كما في هذه الآية التي تضمنت البعدين السجالي و"الفلسفي": "..فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا". يبدو حسب علماء الحديث وروّاته أن الانزياحات في دلالة كلمة "سنة" قد أجريت في زمن النبيّ (ص) تحديدا. والحال أن الرسول محمدا نفسه، إن سلّمنا بصحة ما نقل عنه، قد تحدث عن "سنته" باعتبارها "سيرته" و"سلوكه"، أو ببساطة "نمط حياته في الفعل والتواصل". ولكن المعنى قد امتدّ اليوم ليرسم المسار العام لدى المؤمن في أدق تفاصيل السلوك بدءا باللباس وطرق تناول الطعام وصولا إلى الأداء التعبّدي في جزئياته الدنيا. غير أن المجتمعات الإسلامية قد بقيت قرونا غير معنية بهذا "الهوس" في المحاكاة الآلية سواء في أوساط العوام أو لدى النخب السياسية منها والعلمية. لم يظهر الفهم المتصلب للسنة الذي نعاينه اليوم، والذي يتطلّب التزاما صارما بتأسيس منظومة قسرية تعتمد على ما نسب للنبي في زمن متأخر، إلا مع نهاية القرن الرابع الهجري، أي مع إنشاء ما اصطلح على تسميته في مجال المعارف الإسلامية بعلوم القرآن. ومن بين هذه العلوم، حسبنا أن نذكر على الأقل علم الناسخ والمنسوخ وعلم أسباب النزول اللذين ساهما بشكل واسع في بناء نظام تشريعي تراجعت معهما منزلة القول القرآني كمصدر للمعنى ليصبح بعدئذ هو الرافد لتفاسيره ولما ينتج عنها من تخريجات فقهية. فإن كان لفكرة النسخ حضور جليّ في نص القرآن، فهي تختلف حتما عمّا فهمه المفسرون من أنها عملية نقض ميكانيكي لحكم هذه الآية أو تلك بنص آية أخرى تلتها في زمن النزول. بل لا بدّ أن ترتقي الرؤية لتجعل من الفعل الإلهي الناسخ لما كان قد أوحي من قبل، العامل المحرّك لفعل القراءة الإنسانية والمحاولة المستمرة في ملء الفجوة التي تفصل المخاطب الإلهي الأزلي عن المتلقي الزمني الإنساني. فقد سيقت فكرة النسخ هذه في إطار أزمة اتصال بين النبيّ (ص) والمصدر الإلهي، على إثر ما حدث من تشويش شيطاني تسلل إلى المنطوق النبوي وما لبث أن صُحح بعدها. وفي هذا الصدد يؤكد القرآن على استحالة أن يكون امرئ قادرا على حيازة اليقين في حقيقة التواصل مع الله وإن كان نبيّا مرسلا، بل وخاصة إن كان نبيّا يتلقى وحيا إلهيا: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ." (الحج 52). لم ينتبه المفسرون القدامى منهم والمعاصرون إلى أن فعل "ألقى" في هذه الآية لم يرد متعدّيا كما تستوجبه قواعد اللغة العربية. فما عساه قد ألقى الشيطان غير محاولته دمغ الوجود بالعدم، وهو (الشيطان) الذي يتجوهر في رأينا بالعدم المقابل للوجود المحض الذي هو الذات الإلهية. وفي ذلك ما يدعم مذهبنا في القول بتلك الفجوة أو الفطرة التي فطر الله الناس عليها وأرادها أن تفصل أبدا الإلهي عن الإنساني. تلك الفطرة التي أوهمنا الموروث بأنّها لا تعني سوى الطبيعة الإنسانية، هي التي يمكن أن يتسلل إليها الفعل الشيطاني متلبّسا لبوس الإلهي ليخدع المتلقّي بتحويل العدم إلى وجود. وفي مقابل هذه المفارقة اللغوية يعترضنا قول استُخدم فيه فعل لازم على صيغة متعدية وكان الفاعل فيها أيضا هو الشيطان: إنها الآية 16 من سورة الأعراف: "قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ". وفعل القعود هنا لم يتخذ ظرفا مكانيا بل ورد إمّا على صيغة فعل متعدّ إلى مفعول به هو "صراطَك" أو أن "صراطَك" قد اتّخذت وظيفة الحال المنصوب. وكلتا القراءتين النحويّتين هنا تؤدي بنا إلى النتيجة المنطقية نفسها، أي أن يكون هذا الصراط موقعا يحتلّه الشيطان ويتلبّسه ليحول دون التواصل الإلهي الإنساني. أمّا عن علم أسباب النزول الذي جاء متأخرا في الزمن عن علم الناسخ والمنسوخ، فيؤكد الموروث التفسيري على أن نزول القرآن قد مرّ بمرحلتين. أولاهما نزوله ليلة القدر دفعة واحدة إلى السماء الدنيا، وأخرى صار فيها منجّما ومحايثا في الزمان والمكان لأحداث متعيّنة استوجبت تنزّل آياته. حين نزل الخطاب القرآني المتحدّر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا و"فُرقت آياته" لم يكن في نزوله المتدرج استجابة لهذا الحدث أو ذاك، أو بهذه المناسبة أو تلك، بل "ليقرأه الرسول على الناس على مكث" باعتبار صفته ك"قول ثقيل" يصعب على المتلقّي استيعابه دفعة واحدة. انطلاقا إذن من وهم في القراءة تكوّنت قناعة لدى عموم المفسرين بوجود معادلة يتحوّل فيها القول الإلهي الأزلي إلى استجابة للمتطلّبات الزمنية الانسانية ومن ثمّ وجوب تأسيس تشريع وفق هذه المعادلة. انتهى بنا هذا الوهم إلى تعكير صفو العلاقة التي تربطنا بالقول الإلهي وليسلبنا الإرادة الحرّة في تنظيم حياتنا الدنيا وتدبير شؤوننا وإدارة أمرنا فيها. ظنّ الكثير من المفسرين، وخاصة منهم من انخرط في ما سُمّي بالإسلام السياسي، أنّ الآيات الواردة في سورة المائدة "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ" (أو الظالمون، أو الفاسقون)، أنها آيات تؤسس لسلطة قائمة على تشريع إلهي مشتمل على كلّ مستويات إدارة شؤون الناس بما فيها سياستهم. والمتفحّص للغة زمن الوحي يجد أن مفهوم الحكم آنذاك لا يتضمن بأيّ حال من الأحوال معنى سياسة الناس بل إنه محدّد بالتحكيم بين المتنازعين، وذلك ما يبيّنه قوله تعالى: "فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ". إضافة إلى كلّ ذلك لم يُوَلّ بشر البتة في النص القرآني مهمّة الحكم بما أنزل الله إلاّ إذا كان على اتّصال مباشر بمصدر الوحي من أنبياء ورسل، وما عدا هؤلاء فإنّ الله قد أوكل للبشر بعد ختم النبوّات مهمّة ولاية الأمر مكان الحكم بما أنزل الله. والأمر لا يستقيم إلاّ إذا كان مؤسّسا على الشورى بين المتعاقدين. إنّ ما نسمعه اليوم من دعوات لدسترة المقدّس ليس إلاّ محاولة خلط معرفي يمتزج فيه المتعالي بالتجريبي، والأزلي بالزمني، والمطلق بالنسبي. فحذار أن يؤول بكم الأمر إلى "توثين" كتاب نهاكم الله أن تجعلوه "قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا" ! نعم إنّه الخوف الشديد ممّن اعتقدوا اليوم أنّهم يمتلكون مفاتيح الخلاص في الدنيا والآخرة، فظلّوا يبدون تمسّكهم بهذه "الثابتة النصيّة" ويخفون "ثوابت" أخرى ابتغاء مرضاة هذا الفريق أو ذاك. * مفكّر