لا ندري إن كان من أقدم على تحطيم نصب تذكاري مهدى لروح الشهيد شكري بلعيد يعني فعلا الحركة التي قام بها. فهو إن كان يتصور أنه بتلك الحركة إنما يقاوم الأصنام فإنه يكون قد تعسف على التونسيين وآذاهم كثيرا في دينهم وهو إن كان يقصد التشفي من الشهيد فإن القضية تكون خطيرة فعلا لأننا بذلك نصبح نأوي بيننا مرضى يتشفّون من الموتى ومثل هذه الممارسات لا تدخل لا في ديننا ولا في عاداتنا ولا هي في أخلاقنا. بخصوص الفرضية الأولى أي أن هناك من قام بتحطيم النصب التذكاري غيرة منه على الدين لأنه يتصور أنه يقاوم الأصنام وأنه ربما في الأمر شركا بالله يمكن القول أنه إنما يوجّه بذلك صفعة موجعة للتونسيين وهو يمسّ من مشاعرهم الدينية التي يحميها القانون الوطني والدولي ويقدح في علاقتهم بدينهم وفي قدرتهم على التمييز بين الاشياء. فهل كنا نتخيل أن يأتي على التونسيين يوم وبعد قرون طويلة من الإسلام يخرج عليهم من يشكك في دينهم ومن يتصور أنهم ينظرون إلى نصب تذكاري مثلما كان المشركون بالجاهليّة يفعلون. هل كنا نتخيل أن يأتي يوم على التونسيين ويخرج عليهم من بينهم من كان على درجة من الغباوة حتى يتهيّأ له أن نصبا تذكاريّا يمكن له أن يحمل في نظر التونسييّن أكثر مما يحتمل. أي مجرد علامة للذكرى وآداة للتأريخ لحدث بارز. لكن على ما يبدو فإن ما يحدث في بلادنا يؤكد أننا علينا ربما أن نتخيل هذا وأكثر. فقد تم تحطيم النصب التذكاري الذي أقيم يوم الأحد بالمكان الذي قتل فيه شكري بلعيد الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد وحيث سالت دماؤه يوم 6 فيفري الجاري صباحا وغير بعيد من منزله بالمنزه السادس بالعاصمة. هي حركة قام بها فنانون انتظموا يوم الأحد (أول أمس) على عين المكان تحت شعار" فنانون ضد الجريمة " وفاء منهم لروح الشهيد الذي طالته يد الغدر ورغبة منهم وعلى طريقتهم في إعلان مناهضتهم الشديدة للعنف مهما كان نوعه. هي حركة وفاء وهي لمسة فنية لم يكن الفنانون الذين شاركوا بكثافة في التظاهرة يوم الأحد يرومون منها أكثر من الإعلان عن تقديرهم للشهيد شكري بلعيد وعن امتنانهم للرجل الذي كان يعرف أن حياته مهددة ومع ذلك فإنه لم يتراجع بل واصل نشاطه السياسي والتحامه بالمواطنين ونضاله على عدة واجهات من أجل تونس. كان النصب التذكاري مجرد آداة يعترف من خلالها أصحابها بالجميل لهذا الرجل وهي قصيدة للشهيد ولكل شيء كان يمثله شكري بلعيد الرجل الذي كان مقداما ومدافعا شرسا عن حق التّونسيين في جني ثمار ثورتهم والمتمثلة بالأساس في العيش الكريم والحرية والديمقراطية والذي كان فوق كل ذلك مناهضا للعنف مندّدا به في كل المناسبات. لم كل هذا الكم من الحقد؟ إنها حركة من الفنانين ومن كل هؤلاء الذين حلوا على عين المكان تعاطفا وتأثرا وحزنا كذلك على رجل تونسي بقطع النظر عن انتماءاته السياسية والإيديولوجية ذهب ضحية الغدر والعنف السياسي وهي لا تحتمل أكثر من ذلك. أما بخصوص الفرضية الثانية وإن كان يقصد من تحطيم النصب التذكاري التشفي من الشهيد من خلال تقزيم كل المحاولات التي تسعى لتكريمه فإن المسألة تصبح تبعث على الغثيان. ماذا فعل الرجل حتى يستحق كل هذا الإيذاء وكل حملات الإساءة وماذا فعل حتى يقع التعرض لحركة رمزية يراد منها فقط تكريمه. ماذا فعل الرجل حتى يساء إلى ذكراه بهذه الطريقة وماذا يمكن أن يفهم من هذه الحركة حركة تحطيم النصب التذكاري المهدى لروحه سوى أنها محاولة لإيذاء من كان قريبا من هذا الرجل سواء أسرته الصغيرة أو أهله واصدقائه وماذا يراد أن يفهم منها إن لم يكن السعي لتحطيم تلك المكانة التي أصبح يحتلها شكري بلعيد في قلوب التونسيين لما سقط شهيدا للوطن وفي قلوب كل من اهتز لخبر اغتياله وكل من تألم له. حقيقة إننا شعب وإن كان غير مثالي وإن كانت لنا عيوبنا وأخطاؤنا فإننا لم نتعود على روح التشفي وعلى كل هذا الكم من الحقد على انسان قتل غدرا. إنه من الصعب أن لا ننزّل عملية تحطيم النصب التذكاري في إطار روح التشفي وفي إطار الإمعان في الإنتقام من رجل مازال على ما يبدو يزعج بعض الأطراف حتى بعد وفاته. إنها إعلان عن الحقد وعن الكراهية وعن الرغبة في التشفي وفي الإنتقام وهي مشاعر غريبة عنا ونخشى أن تتفشى بيننا. مات شكري بلعيد. مات ورحل وترك الساحة فراغا لمن كان يخشى منه حيّا ومن كان حضوره بالساحة يزعجه فدعوه بسلام.