يصدق كثيرمن التونسيين تحت وطأة الضغط الإعلامي أن «المجاهد الأكبر» قد جلب لتونس الاستقلال وأنه لولاه لما استقلت تونس ولظلت إلى اليوم مستعمرة فرنسية. وقد لا أستغرب هذا من عامة الناس الذين لا يفقهون كثيرا في خبايا السياسة والأمورولكن تستغرب ذلك من النخبة المثقفة من طلبة وإطارات وموظفين أن يصدقوا أكبرأكذوبة في تاريخ تونس الحديث. للأسف الشديد لم نركثيرا من المؤرخين بعد الثورة يصدحون بالحقائق الدامغة التي تكذب «البروباقندا» التي نشرها بورقيبة وزمرته من الدستوريين الانتهازيين الذين كانوا حوله. ولماذا لا يتساءل الناس: لماذا رفض اليوسفيون وثيقة الاستقلال؟ ولماذا تتالت محاولات الانقلاب على بورقيبة سنوات قليلة بعد تلك الذكرى الكاذبة؟ وهذه دعوة للتونسيين الموضوعيين ودعوة للمُتبنين للمنهج العلمي في البحث والاستقصاء التاريخي، دعوة إلى الصحفيين الشجعان الذين يحترمون أخلاق ومبادئ مهنتهم، أن ينشروا الأرشيف الفرنسي (الذي أصبح متاحا للعموم الآن)، حول حيثيات المفاوضات المزعومة حول ما يسمى باستقلال تونس. قد نتفهم مدى الخوف من ردّة فعل بعض الذين يتصدّرون المشهد الإعلامي والثقافي في تونس من نبش الماضي وكشف زيف الذكرى والمؤامرات التي حيكت من ورائها، لأنهم لا يتقبلون الأفكارغير المقولبة والحقائق الصادمة، لأنهم لا يستطعون الخروج من صندوق بورقيبة ومن «الديماغوجيا» التي أسّسها على مدى أكثرمن ثلاثين عاما وملأ بها التعليم والإعلام وحارب بالقتل كل من حاول كشف الخديعة والمؤامرة. بل حارب كل رأي حرلا يدخل تحت مظلة الخيانة والعمالة بتعلة البرقماتية وبهدف الحفاظ على الحكم. هذه الديماغوجيا المبنية على أن بورقيبة جلب الاستقلال لتونس وهو البطل المفدى الذي لامثيل له في العالم. ولما تآكلت شرعية الاستقلال، انطلقت ديمغوجيا أخرى لا تقل خطورة بنيت على فكرة أنه لولا «المجاهد الأكبر» لما تعلم التونسيون ولما توفرت لهم خدمات الصحة وكأن الشعوب الأخرى في العالم لم تتعلم ولم تتوفرلها الصحة!!! لأنّها ليست لها زعيم «عظيم» مثل بورقيبة. وكانت المقارنة دائما تتمّ مع دول إفريقيا السوداء ولم نكن نسمع أية مقارنات مع نظيرتنا في الإستقلال على غرارماليزيا وكوريا الجنوبية ودبي وغيرها). لماذا لا نصارح أنفسنا ونلغي هذه الذكرى الكاذبة المخادعة ونكشف حجم الجهل والتجهيل الذي كنا ضحيته لنصف قرن، الحقيقة صادمة ولكننا إذا وعينا بها جيدا يمكننا تصحيح الأخطاء وبناء مستقبل أفضل لتونس، أو على الأقل إعادة كتابة تاريخنا وإزالة الجانب الدعائي فيه. تاريخ الحركة الوطنية كتبه طرف غير محايد، طرف انقلب على الشرعية بانتهازية سوف يظل التاريخ يذكرها. استغلت فرنسا الانقلابيين على الشرعية وعلمت ما في أنفسهم من انتهازية واستعداد للتنازل وحب للبطولات وهمية. فرنسا كانت تعلم أنها ستخرج عسكريا من تونس لامحالة، فدرست جيدا من كان في الصورة، وعرفت من هو الأقدرعلى تقديم التنازلات وإقناع الآخرين بالتنازل. فجعلت منه بطلا، بطريقة استخبارية خبيثة حيث أطلقت سراح جميع الزعماء حينها وتركت بورقيبة، ليصبح هورمزالنضال: خطة قذرة لكنها نجحت في إعطائه شرعية ومصداقية أمام عموم التونسيين ومن ثمّ اختارته هوبالذات للتفاوض معها. قد يظن التونسيون أن التفاوض كان على استقلال تونس، قد يكون هذا هو الجانب الصّوري و«البروتوكولي» والدعائي للمشهد، لكن حقيقة المفاوضات وجوهرها كانت على كيفية تأبيد الاستعمار. تأبيد الاستعماركان في جوانب كثيرة وأهمها كان في تأبيده في عقليات التونسيين . لم نعد نتحدث عن «Les Tunisiens francophones» بل صرنا نتحدث عن «Les francophiles tunisiens» أوعبيد فرنسا المتطرفين لها لحدّ الجنون والذين هم مستعدون للقيام بأيّ حماقة من أجل الحفاظ على الاستعمارالأبدي الفرنسي لتونس، بل إن هناك أحزابا ساسية في تونس الثورة تُنظّرلذلك، وبسببهم أصبح جزء آخرمن التونسيين «des francophobes» أي معادون تماما لفرنسا ولا يقبلون أي شيء منها. اليوم بعد أكثرمن نصف قرن عن ذكرى هزيمة تونس الوطن وانتصارفرنسا المستعمرة، نقف على تلك الحقيقة المرة: لقد تأبد الاستعمار في وطننا فوق أرضنا وفي أذهاننا. لقد صرنا لا نرى العالم إلا بعيون فرنسية، لا نفكرإلا بالفرنسية بل لا نحترم بعضنا إلا إذا كان أغلب حديثنا باللغة الفرنسية، سياساتنا الداخلية تسطرفي وزارتي الخارجية والداخلية الفرنسية. مغازاتنا وفضاءاتنا التجارية الكبرى كلها فرنسية بل صارت تحتكرسوق التوزيع في تونس، تعليمنا من الثانوي إلى الجامعي كله باللغة الفرنسية بالرغم من أن لاقيمة لهذه اللغة في المجالات العلمية والفنية والأكاديمية ولا نفع يرجى منها في سوق العمل العالمي. المسرح والسينما والفن التشكيلي والتجريدي و السريالي في تونس كلها بذهنية فرنسية حتى وان كانت بأيد تونسية. اقتصادنا رهينة لدى فرنسا حتى إن ثلاثة أرباع معاملاتنا مع الخارج تتم مع المستعمر. فعن أي ذكرى استقلال تتحدثون؟ الغريب في من يخرجون من التونسيين للاحتفال بعيد الاستقلال وهم يحملون لافتات مكتوبة بلغة المستعمرويرتدون ملابس ونظارات من صنع المستعمر ويضعون عطورا ومكياجات وصبيغة شعرمن صنع المستعمر، يتكلمون مع بعضهم بلغة المستعمرويقفلون عائدين فرحين مسرورين إلى منازلهم في سياراتهم التي هي من صنع المستعمر الممولة بقرض من بنك يملكه المستعمر. فعن إي إستقلال تتحدثون؟ الإستقلال لن يتحقق فعلا إلا بالخروج من العباءة الفرنسية والانفتاح على العالم بلغة العلم والعالم، الاستقلال لن يتحقق إلا بخروج المستعمر من أذهاننا والإيمان بهويتنا ولغتنا مع الانفتاح على اللغات الأخرى. الإستقلال لن يتحقق ونحن نحِنّ للمستعمروثقافته وتاريخه وصناعته وكذلك لن يتحقق ونحن نرفض ثقافتنا وتاريخنا وصناعتنا وحضارتنا. الإستقلال يبدأ من داخلنا وليس بمجرّد إحياء ذكرى تاريخية بطريقة فولكلورية أو بروتوكولية.