قد يكون السبب الرئيسي في عدم وضوح الرؤية لدى فئة من المثقفين والمختصين في مجال الفكر والفلسفة مرتبطا بطريقة حياة هذه الفئة. فالذين عاصروا الاستبداد من المثقفين والأكاديميين والمفكرين وانشغلوا بدراساتهم وبوظائفهم أوبالعمل الأكاديمي والبحثي والفكري ولم ينخرطوا منذ شبابهم في العمل الحزبي والحركي والنشاط السياسي لم يغرفوا من معين العمل السياسي الذي يولد بالضرورة الحنكة السياسية ولم يتعرضوا لهزّات شديدة ولابتلاءات عظيمة. ذلك أن هذه الابتلاءات تنيرالطريق لأصحابها في مستقبلهم. ولقد ابتلي المسلمون على عهد رسول الله ابتلاء عظيما. قال الله تعالى: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصرالله ألا إن نصرالله قريب ". وقال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا". فالأمورالعظيمة لا يقدرالإنسان على مجابهتها إلا بعد أن يتعرّض لتجربة ومعاناة وابتلاءات عظيمة. فأبو بكرالصديق رضي الله عنه ورغم كونه ميالا إلى اللين إلا أنه لم يسلك سبيل اللين مع المرتدّين الذين امتنعوا عن أداء الزكاة. وقال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدّونه لرسول الله لقاتلتهم عليه. والله لأقاتلن كل من فرّق بين الصلاة والزكاة. وخاض حروب الردّة التي قتل فيها كثيرمن المسلمين ومن حفاظ القرآن. فقراربهذا الحجم لا يقدرعليه إلا العظماء الذين تربّوا على الصبروعلى المعاناة والشدائد وعظائم الأمور. فلولم يتّخذ أبوبكر قرار الحرب على المرتدّين لتجرّأ هؤلاء على الإسلام والمسلمين ولربما رجع الإسلام من حيث أتى. فاللين في مواطن الشدّة ضعف فادح. قال أبو الطيب المتنبي:"ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ***مضر كوضع السيف في موضع الندى". في أحداث مدينة سليانة استنكرالعديد من الناس على مختلف مشاربهم استعمال الرشّ. ولكن الثورة في أحداث سليانة كانت في مفترق الطرق وتحتاج إلى قرارات جريئة وإلى بأس وشدّة. ولو لم يتم ّ التعامل مع أحداث سليانة بحزم وبصرامة لانتقل الشغب والعصيان المدني المدبّرسلفا من بقايا الاستبداد ومن بعض قوى المعارضة المتشددة إلى مناطق أخرى مثلما كان مخططا له إلى حين إسقاط الحكومة بتعميم الفوضى وليس بصندوق الانتخاب. وعندئذ لن ينفعنا الندم إن خسرنا ثورتنا. فإن لم يكن بمقدورالحكومة المنتخبة أن تستعمل السلاح ضدّ من يريد إسقاطها بالقوة للرجوع إلى عهد الاستبداد فما جدوى الثورة التي أنجزناها وما جدوى الانتخابات التي عقبتها ؟ فعظائم الأمورتحتاج لأمرين إثنين : إلى حكمة ومنطق سليم وإلى تجربة وابتلاءات عظيمة. فلا يقدرعلى أخذ قراريحتاج إلى بأس شديد إلا من تربّوا على البأساء والضراء. فالأكاديميون والتكنوقراط دورهم مطلوب ومحمود في الحياة العامة وفي إنارة الناس في شتّى مجالات العلوم والاختصاصات. ولكن سياسة الناس وقيادة الجماهيروالصبر عليهم وأخذ القرارات الصعبة عند مفترق الطرقات لا يقدرعليها إلا الذين انخرطوا في العمل السياسي والنضالي منذ نعومة أظفارهم وتعرضوا لمشقات وابتلاءات عظيمة ومسّتهم البأساء والضرّاء. فلو جئنا بكل ذهب الدنيا من صنف 18 قيراط وجمعناه على بعضه ما كان لمعانه يضاهي غراما واحدا من صنف 24 قيراط إلا أن يتم صهره في درجة أعلى. وعلينا أن نخرج من أذهاننا الأفكارالإفلاطونية التي تعلّي من شأن كل المنشغلين بالفكروالفلسفة. ذلك أن فلسفة بدون تجربة وبدون ممارسة وبدون ابتلاء لا يمكن أن تقود الجماهير. فالفلاسفة الذين ركنوا إلى السكوت والانزواء والانطواء أيام الاستبداد، حتى ولو كان ذلك ناتجا عن طبيعة في الإنسان وليس عن خوف، لا يمكن أن يكونوا مثالا لقيادة الجماهير في كل وقت وخصوصا في زمن الثورات وفي الفترات الانتقالية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائرفأمره ونهاه فقتله"؛ فأحسن الأعمال ما كان مرتبطا بتجسيد الأفكار والقناعات إلى أفعال في أرض الواقع. فليترك رجال الفكرالسياسة إلى أهلها وليسع السياسيون إلى تحييد رجال الفكرغيرالمسيّسين وعدم الزج ّبهم في القائمات الانتخابية في المحطات القادمة. وليسع المواطنون في المحطات القادمة إلى انتخاب كل من خلق للسياسة وتمرّس في العمل السياسي والنضالي وخاض تجارب نضالية عديدة. لأن المناضلين الحقيقيين سيكونون لا محالة هم الأقدرعلى تحمل المسؤولية واتخاذ القرارات الصعبة عند مفترق الطرقات لغاية قيادة البلاد نحو الاستقرارالسياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي. وفي الأخيرتجدرالإشارة إلى مسألة مهمة : إن الناس عموما وكثيرا من الملتزمين خصوصا ينظرون إلى الإسلاميين على أنهم أناس من طينة أخرى لا يخطئون. فإذا أخطأوا مرة أو مرتين أوأكثرفإن الناس يصابون بخيبة أمل وينقلبون عليهم في لمح البصرفي حين أن الصواب أن الإسلاميين مثلهم مثل كل الشرفاء يخطئون ويصيبون ويسعون باستمرارلتدارك الأخطاء مثلما يسعون باستمرارلأسلمة المجتمع بكل يسروبتدرج وعلى مراحل. فعموم الناس يحبون أن يتولاهم رجل من طينة عمر بن الخطاب. فعمرابن الخطاب رضي الله عنه لم يكن ليغدوالإمام الزاهد والخليفة العادل والراشد لولم يترب في مدرسة النبوّة ولم يكن محاطا بآلاف مؤلفة من الصحابة الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم". فعمربن الخطاب لم يأت من كوكب آخروإنما اختير من مواطنين على شاكلته فكيف تريد الأمة أن يتولاّها رجل مثل عمر ابن الخطاب وأغلبها يشكوا من أمراض قاتلة. قال الله تعالى: «لا يغير الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم».