أكد راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، أن التجربة التونسية نجحت بسبب ابتعاد الجيش عن الحكم، قائلاً إن تونس برئت من حكم العسكر، ولذلك نحن مدينون للجيش التونسي أنه حمى الثورة، وكانت أمامه فرصة للاستيلاء عليها، حيث كانت الدولة ملقية على الأرض، وكان سهلاً التقاطها، ولكنه تولى حمايتها وحماية العملية الديمقراطية. وأوضح الغنوشي في ندوة «تجربة التوافق السياسي في عملية التحول الديمقراطي في تونس» التي أقامها معهد الدوحة للدراسات العليا يوم الأحد الماضي ، أن تونس حالة استثنائية في دول الربيع العربي، وتلك الحالة الاستثنائية تولدت من ثقافة التوافقات، حيث يحسب للنخبة التونسية أنها إلى الآن أدارت خلافاتها حول طاولة الحوار، باجتماع كل الفرقاء، دون إقصاء، ويتم التوصل إلى توافقات. وأشار إلى أن سبب الاستثناء التونسي لا يعود لطبيعة خاصة للتونسيين، بل لأوضاع مختلفة، مثل تركيبة المجتمع التونسي المنسجم، بينما التركيبة في المجتمعات الأخرى أكثر تعقيداً، بين تعدد ديني وعرقي ومذهبي. وقال إن إدارة الحرية لا تزال بحاجة إلى مزيد من التعلم. ونوه رئيس حركة النهضة إلى أن تونس بها مجتمع مدني تدخل حينما حدثت خلافات السياسيين، وهذا المجتمع المدني دفع الساسة إلى طاولة حوار أفضت إلى توافقات، وتنازل من يدير السلطة عنها، لأجل دستور توافقي وانتخابات، ووقّعت النهضة على هذا التوافق، وتنازلت عن السلطة عبر انتخابات نزيهة، لإيمانها بإنجاح الخيار الانتخابي ولو على حساب السلطة. وتابع الغنوشي بقوله إن تونس أوقدت شمعة الربيع العربي، وأضاءت سماء المنطقة العربية، التي ظلت معزولة، حتى ظن الجميع أن شعوب هذه المنطقة لا شأن لهم بالحرية، بسبب معتقداتهم، منوهاً إلى أن تلك الشعلة حولت العالم العربي إلى منطقة تضج بالحياة. المسيرة التونسية وحول الأوضاع الداخلية في تونس، أوضح الغنوشي أن تونس كان لها فضل كبير في الحفاظ على الثورة، وحولتها من هبة إلى دستور ديمقراطي حديث، يوائم بين القيم والحقوق، وبين الإسلام وتراثه، وأعطى الدستور للمرأة حقوق المناصفة في كل الحقوق السياسية، وأنتج منظومة ديمقراطية حديثة، وانتخابات تدار من مؤسسة منتخبة من البرلمان، لا دخل للبوليس بها، كما ألغيت وزارة الإعلام، وعوضت بهيئة منتخبة من رجال الإعلام. وتابع قائلاً: «نحن بصدد انتخاب مجلس أعلى للقضاء لا يرأسه رئيس الدولة، ومحكمة دستورية، فضلاً عن برلمان يمثل كل التيارات». وأشار الغنوشي إلى أن ثورة تونس كانت حقيقية استطاعت تغيير الدستور والمؤسسات، وهي الآن بصدد تغيير الممارسات، مؤكداً أن العرب كلهم مبتدئون في فن إدارة الاختلافات سلمياً، ومبتدئون كذلك في الديمقراطية، فإدارة الاختلافات مقياس أساسي للتحضر، بطريقة سلمية، حتى تنتقل السلطة من شخص إلى شخص، ومن حزب إلى حزب دون أن تراق قطرة دم، منوهاً إلى أن تونس الآن على طريق إدارة الاختلافات بطريقة دستورية. خيار التحول وحول تجارب الديمقراطية في دول الربيع العربي الأخرى، قال الغنوشي إن إعطاء الأولوية لخيار التحول الديمقراطي هو الأساس، ففي مصر على سبيل المثال انقسم المجتمع المصري بين 51 % انتخب الرئيس محمد مرسي، و49 % للمرشح المنافس له، وانقسم مجتمعنا بين إسلاميين وعلمانيين. وأكد أن الانقسام خطر على الديمقراطية الناشئة، وأنها لا تحتاج إلى حكم 51 % بل إلى حكم الإجماع، منوهاً بأن حكم التوافق بين التيارات التي من شأنها ألا تكون في حكم واحد، هو سبب نجاح التجربة التونسية، فالرئيس السبسي كان وزير خارجية في العهد القديم، ووجدنا من يعتبر ذلك ثورة مضادة، ولكن هذا ليس صحيحاً، لأن أحد أسباب نجاح نموذجنا أننا تصدينا لمشروع قانون إقصائي، مثل اجتثات البعث، وهو نمط تفكير يمثل سبباً رئيسياً من أسباب فشل الديمقراطية في هذه المناطق. الثورة والحرية وقال الغنوشي إن من دخل تحت خيمة الدستور، فهو ابن الثورة، وابن المجتمع بكامل الحقوق، موضحاً أن العقاب الجماعي ليس عادلاً، وهناك عدالة انتقالية تحاكم أفراداً، وليس نظاماً، مثلاً هناك وزراء صدرت ضدهم أحكاماً غير عادلة، وقد احتججنا على تلك الأحكام، وعبّرنا عن معارضتنا، لأن العدالة الانتقالية لا تستهدف الانتقام، بل فتح الجروح لعلاجها، والاتجاه للمستقبل، دون أحقاد. وأعرب الغنوشي عن قناعته بأن ما شهده العالم العربي بعد 2011 هو أن العرب تذوقوا الحرية، وباتوا أقوى من حكامهم، والشعوب تحقق أحلامها بتراكم التجارب والآلام، ومن يتابع تاريخ ثورات العالم يدرك أن الثورة مسار، وقد يحقق أهدافه بعد قرون أو سنوات، مثل الثورة الفرنسية، حيث إن الدستور الذي يحكمها اليوم هو دستور 1905. والطريق نحو الحرية محفوف بالمخاطر. وأكد أن نتائج الثورات مرتبطة بالزمن والكلفة، مشيراً إلى أن الذي يقلل كلفة الثورة وزمن نجاحها هي النخب، وبقدر وعيها، بقدر ما توفر على شعوبها التكلفة. مسار الأزمة السورية وحول الأزمة السورية الدامية، قال رئيس حركة النهضة إن الأوضاع هناك أكثر تعقيداً، ولا يوجد عاقل يتصور أنها ستحقق أهدافها بنفس أهداف تونس، لأن الأوضاع الإقليمية والدولية أكثر تعقيداً، إلى جانب الأهمية الإستراتيجية، لأنها تمثل قلب العالم، ما يجعل تكلفة التغيير أكبر، وتقتضي زمناً أكبر. وما زاد كلفة الثورة السورية هو عدم نجاح النخب السياسية والعسكرية في تحقيق أدنى توافق بينها، فنجح الأعداء في توظيف ذلك الأمر. وألمح الغنوشي إلى أن المسار التونسي ليس الوحيد لنجاح الثورة، بل لكل بلد طريق للديمقراطية ينبغي أن يكتشفه، فتجربة مهمة في المغرب اليوم، حيث تقدم الملك محمد السادس إلى البرلمان بتنقيحات دستورية تخلى فيها عن كثير من السلطات للشعوب، وفتح أبواب السلطة أمام الإسلاميين. الاستحقاق الديمقراط وأكد أن التغيير قائم، والمنطقة العربية لن تبقى ثقباً أسود، والمسار الديمقراطي متقدم، وليس هناك شباب عربي يرى أنه أقل استحقاقاً للديمقراطية من أي مكان آخر، فأنا مثلاً لم أرتب يوماً خلال 22 عاماً من إقصائنا من المخلوع بن علي، في أنه في أول فرصة تعطى للشعب التونسي، سيختار النهضة، وهذا ما حدث في 2013. وأشار إلى أن شريحة كبيرة لم تكن راضية عن التخلي عن السلطة العام 2013، ولم تكن عملية سهلة، لكن كان لدينا يقين أن مصلحة البلد العليا في استمرار الحريات، ونجاح الخيار الديمقراطي، ونحن متجهون لاستكمال المسار بنجاح تنظيم الانتخابات البلدية نهاية السنة الجارية. خيار التمايز ودافع الغنوشي عن النظام التونسي بقوله إنه ليس نظام الشيخين كما يشاع، ولكن التجربة التونسية أعمق من ارتباطها بشخص أو اثنين. وجميع الأطراف حملت أنصارها على خلاف ما يريدون. وأضاف بأن خيار التوافق لم يكن شعبياً في بادئ الأمر لا في حركة النهضة، ولا في نداء تونس، وطلبت من الإخوة إعطائي فرصة، ولو أخفقنا أتعهد بالاستقالة. ولذلك في المؤتمر الأخير شهر مايو الماضي تم التصويت على خيار التوافق بنسبة 87% من الأصوات، لاقتناع الناس بهذا الخيار. وحول الحديث عن فصل ما هو دعوي عن السياسي أوضح الغنوشي أنه يفضل خيار «التمييز» أو «التمايز» بين المجال الديني والسياسة، وبين القضايا الثابتة في الدين، وما هو في مجال الحرية، بدلا من مصطلح «الفصل»