كنت كعادتي أجوب شوارع ذاكرة الماضي حافي الاحساس ، عاري التركيز، كنت كالمعتوه أكرر نفس الحركات على امتداد اليوم ، واتنقل كالنحلة من مقهى الى مقهى ومن حارة الى اخرى ومن منتدى ثقافي الى منتدى ادبي ... وحين يعييني السير ، اجلس على حافة المعبد لاراجع صور ذكرياتي من ذاكرتي ، واغرق في الماضي الوردي الذي عشته بكل احاسيسي في ارض الغربة العربية..كنت الزهرة الفواحة التي اختارك قلبي من حديقة الحسان الفيحاء ،كنت فرقدي في سماء ضياعي العاطفي ، وكنت نجمتي القطبية في صحراء اغترابي ،كنت نبضي المستمر ، ولولاك لصمت قلبي الى الابد في عرين الغربة ، كنت معك تلميذا نجيبا ،أستمد مراجعي الفلسفية من نظارة عينيكِ، واذاكر دروسي على بساطِ سحر ضحكتكِ الخالدة الملائكية، بكِ دخلت تاريخ المشرق العربي ومعك حفظت عن ظهر قلب تظاريس الشام والحجاز ، ومنكِ تعلمت العشق السرمدي والحب الدمشقي العربي العريق، معكِ تدربت على نسيان نار الغربة وعوضتها بنار الشوق الذي تلظى به قلبي منذ عرفكِ ، معكِ نسيت اهلي واقاربي وحبي الطفولي الذي ترعرع مع بنات الجيران ، معكِ امحى حبي الاول في معهدي ونسيت حتى اسمها المعبر وكل مذكراتها التي كتبتها لي بمداد الدموع والاشواق ، معك عرفت كنه الحب اللامتناهي ، الحر ، المستقل ، النادر ، المغاير، الآسر ، معكِ بزغت شمس الهيام من شرق وطني العربي الساحر ، والزاخر بالعواطف الجياشة ، معكِ ولدت من جديد ، انا الآن مولود جديد ، رضعت من دمشق حليب الحب الحقيقي ، وشربت حتى الثمالة من اكسير الوحدة العربية ، وترعرعت بين شوارع مدينتك العتيقة عاشقا ولهانا حتى اصبحنا مضرب الامثال في الوفاء والحب العذري ، بك ومعك احيينا تراث ادبنا القديم ، واصبحنا اثنين في قلب واحد، وجمعنا في آن واحد ، جميل وبثينة، ابن زيدون وولادة، وعبلة وعنترة، وقيس وليلى،معك عاد لي غرام الدراسة في جامعتكم ، وتمنيت ان تدوم سنوات التحصيل العلمي دهرا بحاله الوردي ، وان تتأخر شهادة الماجستير الى قرن لانني معك اشعر ان سنوات الزمان تمر لحظات ، فلا انا اشيخ ولا انت تكبرين ، لانني بالعكس حين امسي اودعك على لغو ملائكي وحين اصبح اقابلك بوجه صبوح غض بريئ جنيني ، كأن عقارب ساعة حبنا تسير الى الوراء..فهل معنى هذا اننا سنعود الى المهد العاطفي ونولد من جديد من رحم الحب متيما ومتيمة ، عاشقا وعاشقة ؟ لا زلت اذكر بشوق كبير ، كيف دخلت بيتكم الدمشقي الانيق والعتيق ، وكيف استقبلتني امك الحنون بحنان كبير،وكيف سقتني من يديها اكسير الشوق العربي،بكل حنان الام العربية ، وكيف همست لي جملة الضيافة العربية الخالدة:" البيت لك ، والعتبة لنا"،ثم رمقني بعينين دامعتين ، ورسمت على اديم قلبي ، كلماتها الخالدة:" فلذتي فلذة من فلذة عشقك السرمدي ".. ولا زلت اتذكر كيف احتضنني ابوك بفيض من الابوة العربية المليئة بالشهامة والصبابة والنخوة العربية، حتى ابكاني في احضانه ، ثم همس اليّ:" هي عصفورتي وانت شحروري ، فمتى اراكما في عش البناء ، والربيع على الابواب "...