يقول عبد المجيد بن جدّو في مذكراته أنه كان له صديقان أصبحا طبيبين هما محمد القصاب وعز الدين مبارك، طلبا منه أن يخصّص لهما دروسا في العروض، " فدفعني غروري وقبلت وأجهدت نفسي في معرفة هذا الفن واشتريت كتبا تساعدني على فهم البحور والمفردات. وكان أوّل ما درّسته لصاحبي لامية العرب للشنفرى في بحر الطويل: أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قوم سواكم لأميلُ . يقول محمد صالح الجابري في كتابه "الشعر التونسي المعاصر (1870-1970)" والصادر عن الشركة التونسية للتوزيع: " تعود شهرة عبد المجيد بن جدّو إلى عمله الإذاعي عبر عشرات السنين وإلى صلته بالبرامج الثقافية وأغانيه الكثيرة." أمّا عن أغانيه فأغلبها يعدّ من أكثر الأغاني التونسية ذيوعا. ولقد تداول أغلب الملحنين في تونس وفي غيرها محمد التريكي وصالح المهدي وعلي الرياحي والهادي الجويني وقدور الصرارفي ووناس كريّم وعلي العيد وعز الدين إيدير وعلي شلغم والعروسي البليري. ولقد تغنى بأغانيه صليحة وعليّة ونعمة ( هندة هندة زي الوردة) وعايشة وزهيرة وصفية ( يا واردة على العين) وفاطمة ( جيتك وقت السوق حفل) تلحين محمد التريكي وعلي الرياحي ( يا ولفتي) و (لا شفتك مرّة ولا ريتك) الهادي الجويني (سهم الشفر قتال) و(نحكيلك كلمة) و( يا خنابة) يوسف التميمي ومصطفى الشرفي وأحمد حمزة وعز الدين إيدير ومحمد أحمد. كما غنى له المطرب الكبير عبد الحليم حافظ من تلحين الموسيقار بليغ حمدي " يا مولعين بالسهر ". ولكن أثر بن جدّو الغالي هو هذا النشيد الخالد الذي قام بتلحينه الشاذلي أنور وأدّته المطربة عليّة والذي أصبح عنوانا لمعركة مصيرية في بلادنا معركة الجلاء عن مدينة بنزرت سنة 1961. ولقد وقع تلقين هذا النشيد إلى كافة تلامذة المدارس عند العودة المدرسية في أكتوبر 1961 وأصبح رديفا لنشيد الثورة. ولقد عنونت إحدى الشذرات بجريدة الصريح عند الحديث عن بنزرت ببني وطني: بني وطني يا ليوث الصدام وجند الفداء نريد من الحرب فرض السلام ودفع العداء ... فإمّا حياة وإمّا فلا
عودة إلى الإذاعة للتذكير بأنّ أوّل ما غنّى الشاذلي أنور من تلحينه كان من كلمات عبد المجيد بن جدّو "يا رايحة والدهر بيك غواني" لقد انضمّ إبن جدو إلى أسرة الإذاعة سنة 1945 مع زمرة من المذيعين أمثال مصطفى الفيلالي ومحمد حفظي وعبد العزيز قاسم وابتدأ حياته المهنية كمدير إرسال بمحطة تونس التي كانت انبعثت سنة 1938 بساحة المدرسة الإسرائلية بإدارة الأستاذ عثمان الكعاك. ولقد أدركت شخصيا الراحل بالسماع أوّلا إذ أنّ صوته كان شدّني لعذوبته وطلاوة لسان صاحبه. ثمّ عرفت الرجل مباشرة في أروقة الإذاعة منذ نهاية الستينات حيث كنت أنتج برنامجا موجها للطلبة فكنت أتردد عليه في مكتبه. وتوطدت الصلة به عندما انتقل بالسكنى من دوّار الشط إلى أريانة فكنّا جارين. ولمّا حمّلت أمانة المدينة عام 1980 سخّرت له قصر برج البكوش وقصر بن عياد لتسجيل عدد من حصص برنامجه "متحف الأغاني". وكنا متلازمين للحديث عن شجون الأدب والثقافة. ولقد تفضّل بإعداد سمر على منبر جمعية صيانة المدينة في أريانة في شهر رمضان في أواخر الثمانينات وكان محور السمر تاريخ مدينة أريانة. كان رجلا موسوعيا وتناول في مدوّنته الشعرية والأدبية المكتوبة منها والمسموعة والمرئية أغراضا عديدة لقد نظم في الوطنيات وفي الغراميات وفي النبات وعلى الغلال والزهور وحتى في الرياضة " رياضة يا شبّان" أداء السيدة علية. كما أنّ للمرحوم صفات أخرى فلقد انتصر منذ سنة 1975 إلى الدفاع عن حقوق المؤلفين والملحنين فشغل منصب أمين عام لجمعيتها منذ ذلك التاريخ. ولقد أمضى باسمها على وثيقة دولة أبرمت سنة 1988 وهي الاتفاقية الدولية للأعمال الفنية التي أعدّتها منظمة اليونسكو مع المنظمة العالمية للملكية الفكرية. والأديب عبد المجيد بن جدو عضو مؤسس لاتحاد الكتاب التونسيين سنة 1971. لقد سعى الفنّان محمد القرفي عند إعداده لمنوعة " يا ليل يا قمر " التي اختتم بها الدورة 44 لمهرجان قرطاج الدولي باختيار عبد المجيد بن جدو ضمن الشعراء الفطاحل للقرن إلى جانب أبي القاسم الشابي ومنوّر صمادح وأحمد فؤاد نجم ومحمود درويش. فهل ثمّة أكرم من هذا التكريم. وعزاؤنا أنّ أبناء المرحوم يسعون بفضل معاضدة مجهودات أهل الحلّ والعقد لنشر ديوان يحفظ أثر المرحوم. وعزاؤنا هاته الأبيات التي أملاها الفقيد عند وفاة صديقه الحبيب شيخ روحه مؤسس دار الصباح، ثمّ توفي بعده بساعات: يا دار هل أمنتنا يا دار يا دار ليس لساكنيك قرار الله بالفردوس أسكن راحلا يا جنة سكنت بك الأخيار التحق عبد المجيد بن جدّو بالرفيق الأعلى يوم 28 جانفي 1994 ولكن أثره خالد إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.