كنت في الثالثة من عمري أو تكاد ، أذكر فقط أننا كنا في بيتنا الشتوي في نهج هميلكار قرب باب القصبة وجامع سيدي إلياس الذي يقال إنه كان جامعا حنفيا ، قبل أن يصبح جامعا مالكيا لانتقال الأحناف في مدينة صفاقس إلى المالكية ، كنا يومها نزلنا من "رعاية " في ساقية الزيت ( وكان يقال إللي ما عندوش جنان في رعاية يطلعوا أولادو هطاية ) بسبب مرض أخي محمد جاءته رحمة اليوم بعينيه وكان ما يزال رضيعا ، فأخذه الوالد إلى طبيب من أصل ألماني ، وصف له دواء ، ،،، جلسنا إلى المائدة الوالد الحاج البشير وخديجة يقال لها دوجة وأخي محمد وأنا ، وكانت تتنقل بين الغرفة التي كنا نستعد للأكل فيها والمطبخ ،المعينة المنزلية حليمة التي كانت بمثابة الأخت، وقد وضعت أمامنا شقالة" "القطع خميرة " ويسمونها أيضا حلالم تونس ، وهي غير الحلالم المعروفة في العاصمة ، وإذ كانت تأتي من الكوجينة بقمصار الماء ، بدأ أزيز الطائرات ثم انفجرت قنابل مدوية ، كان بيتنا بوسط غير مسقوف على عادة الديار في المدينة العتيقة ، كنا نظن أن المنزل سيسقط على رؤوسنا ، ارتفعت عقيرتي بالبكاء ، فيما أخذ الوالد يقرأ بعض سور القرآن والأدعية بصوت مرتعش ، وضمتنا الوالدة أنا وأخي محمد في حضنها كأنها تحمينا ، مما يجري ، بينما كانت حليمة في المطبخ تصيح بصوت عال ، ولم تجد في نفسها من الشجاعة ما يمكنها من قطع الأمتار القليلة لتلتحق بنا ففي مثل الديار العربي لم تكن وسطيتها مسقوفة ، دام الأمر في ما أذكر حوالي ساعة ، أكلنا غداءنا بسرعة ، ثم خرجنا إلى الشارع ، لنقطع المدينة في .. اتجاه باب الجبلي وأنا أتعثر في مشيتي بعد الفزع الشديد بينما استقر أخي محمد علي كتف أمي نائما وقد سقط جزء من السفساري من على رأسها ، ووراءنا حليمة ، وقد أصابتها بين الحين والآخر هبة صياح مكتومة ، لم أكن شجاعا ولكن ربما لم أكن واعيا بما يجري ، سرنا في نهج هميلكار حتى آخره ثم انعطفنا يسارا في اتجاه نهج سيدي علي الكراي المعروف بسوق الفرياني ، وبانعطافنا في منتصفه إلى نهج سيدي بلحسن الكراي بدت أمامنا ويا لهول ما رأينا بنايات على الجهة اليمنى وقد تهاوت من أثر القصف ، كانت المدينة أيامها خاوية على عروشها ، بسبب هرب سكانها إلى الضواحي أو الأجنة ( جمع جنان ) وكانت كل عائلة تقريبا تملك حدائق في ضواحي المدينة ، وتلك عادة معروفة في مدينة صفاقس ، تجاوزنا الخراب نحو زاوية سيدي بلحسن قاصدين باب الجبلي ومنه انعطفنا يسارا نحو فندق بودبوس ، حيث أسرج الوالد الكاليس وربطه بفرسنا البيضاء، وانطلقنا نحو ساقية الزيت ، يومها جاءت وفقا لما سمعته لاحقا موجة أخرى من الطائرات في طريق قرمدة وقذفت حممها، وكان من ضحاياها المرحوم قوبعة وزوجته ، وهو والد السيد نور الدين قوبعة الذي كان قبل سنوات من الكوادر الكبرى في وزارة المالية ، ثم رئيسا مديرا عاما لصندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية . وصلنا سالمين إلى جنان عمي محمد الأخ الأكبر للوالد)( ووالد الحبيب الفراتي مدير ديوان وزير التخطيط والمالية ، قبل أن يحط به الرحال كمدير عام للبنك العربي لتونس بيات) وصلنا إلى جنان عمي إذن في آخر زنقة دمق ، حيث أفردت لنا الغرفة الغربية نحن خمستنا، بعد أن تركنا بيتنا الصيفي على شاطئ البحر ،في السلوم بطريق سيدي منصور ، وكان الاعتقاد سائدا فيما علمت، ثم إنقليز وأمريكان بعد " تحرير" صفاقس. الحقيقة أن تلك الأيام كانت أحلى أيام الطفولة فقد كانت العناية بنا أنا وأخي كبيرة جدا ، سواء من عمي أو زوجته التي كانت شقيقة إمام الجامع الأكبر ، والذي خلفه بعد موته خالي محمد الفراتي ، الذي اعتزل الإمامة والخطابة بعد الاستقلال ، رافضا أن تتدخل السلطة في خطبه ، وبعد أن ساد توجيه السلطة لأفكار عامة لاعتمادها ، والحق يقال أن بعض الأئمة ( ولم يكن من بينهم خالي محمد)ما زالوا في ذلك الحين يخطبون باسم السلطان التركي عبد الحميد والخلافة. لم تكن المدارس قد فتحت ، وكنا نمرح في " وسط الجنان " نجني القرفالة ( الجلبانة) من نباتاتها ونأكلها عسلا مصفى ، لم نكن نخرج لا كبارا ولا صغارا ، فالخضر والغلال متوفرة في الحديقة أزيار العولة تطفح بما فيها ، ومرة في الأسبوع يخرج الوالد وعمي إلى الساقية ( ساقية الزيت ) لأداء صلاة الجمعة، وشراء لحم العلوش من عند الجزار برك الله ، ولم نكن نأكل اللحم كل يوم وإنما مرة أو مرتين في الأسبوع. ** في الخريف انجلت الغمة ، ورحل الألمان مهزومين ، وجاء الفرنسيون لينتقموا من الدساترة الذين اعتبروهم من أنصار المحور ، ولنا ممن في العائلة من قضى سنوات في السجون أو في المنفى ، حتى انبلج يوم 31 جويلية 1954، يوم جاء منديس فرانس رئيس الحكومة الفرنسية، واعدا بالاستقلال الداخلي . في الأثناء كان التقسيط هو السائد ففي عائلتنا بستة أفراد بعد أن انضافت إليها سريعا أختي سعاد وقبل أن يفد أخي الأصغر محسن ، كنت أذهب يوميا إلى " كوشة" دربال ، لأتناول خبزة طليان بزوز فرنك ، ويتم تسجيل ذلك ببطاقة يصرفها لنا الشيخ الزريبي كل يوم جمعة ، فقد كان كل شيء يباع بالتقسيط ، وبنظام محكم ، وكان من يحاول الاحتكار يقبض عليه ويوضع في حبس القاضي جنب باب الجبلي ، وعلى ما أذكر ، فقد كان الانضباط كاملا ، فالسكر يباع في قوالب مخروطية الشكل ، بوزن كيلو على ما أعتقد ملفوفا في ورق صقيل ،كان يقال له لون طابع زينة ، وكان ذلك كافيا لمدة أسبوع . ذهبنا إلى المدرسة بعد السن القانونية وبعد قضاء ثلاث سنوات في مكتب الحاج خليفة ، لحفظ القرآن وبعض قواعد اللغة، وكنا نجلس على الأرض ونكتب السور على ألواح مطلية بالطفل، ولعل الغريب أن الفصول كانت مختلطة جانب للأولاد وجانب للبنات لا يفصل بينهما إلا مقدار متر ، فقط لم يكن مسموحا تحدث الأولاد مع البنات داخل القسم، وإن كنا نخرج للشارع معا ونتحادث ، لكن كنا صغارا ، وفيما يلي من السنوات وبعد أن غادرنا والبنات كبرن صرن يلتحفن لحفة سوداء تصل إلى ما تحت الصر والبعض منهن يضعن جوبا أسود يعلى إلى نصف الساق ، بينما الأغلبية يلبسن جوبا ملونا حتى نصف الساق ، ولم يكن التواصل أو التحادث ممنوعا هذا على الأقل فيما عشته في صفاقس ، ولعله وفي مستوى المدينة ، لم يكن موجودا التشدد الذي نراه اليوم . أذكر هذا ونحن نعيش اليوم ، حرب الكورونا؟؟؟؟