تصدير "وتونس الرحيمة لم ترحم -السّفهاء-..ومهما السجون ضمّت رجالا.. ظلّ على شفاه التونسيين الغناء"(عن الشاعر العراقي المغترب-مظفر نواب-بتصرف طفيف أملاه مسار المقال) في الرابع عشر من شهر جانفي 2011 عزفت تونس لحنها الثوري العذب وتمايل الشعب طربا تناغما مع ألحان لطالما اشتاق لسماعها سنوات طوال.قبل هذا التاريخ الجليل كانت قوافل الشهداء تسير خببا في مشهد قيامي مروّع بإتجاه المدافن بعد أن حصد الرصاص المنفلت من العقال رقاب شباب تبرعم ربيعهم وأزهر في بساتين العمر الجميل..شباب تقدموا بجسارة من لا يهاب الموت ليفتدوا تونس بدمائهم الزكية ويقدموا أنفسهم مهرا سخيا لعرس الثورة البهيج.. كان-البوعزيزي-أوّلهم حين خرّ صريعا ملتحفا نارا بحجم الجحيم،ثم سقط من بعده شهداء كثر مضرّجين بالدّم، بعد أن أفرغ-حفاة الضمير-غدرهم في أجسادهم الغضّة..أجسادهم التي سالت منها دماء غزيرة..و في الأثناء كانت الفضائيات-بارعة-وهي تمطرنا بمشاهد بربرية دموية لا يمكن لعاقل أن يصدّق وقوعها في بلد كان يزعم-حاكمه- أنّه من مناصري حقوق الإنسان..!! ترى كم احتاجت تونس إلى مثابرة وزخم ودم ليضطرّ بن علي إلى الرحيل،ويضطر العالم إلى سماع صوتنا الذي ما كان أن يصل لو لم يكن له هذا الثمن الفادح؟ الإرادة وحدها قادرة على تحقيق نصر ينبثق من دفقات الدّم ووضوح الموت.. هوذا الموت إذا، كاسرا ،سافرا ،متوحشا،فجائعيا وفرجويا..وما علينا نحن الذين أمهلتنا أعمارنا كي نعيش ونحيا ونرى بعينين مفعمتين بالرفض والتحدي تلك المشاهد الأليمة التي حزّت شغاف القلب..إلا أن نبارك ثورتنا المجيدة ونرمي ورودا عطرة على أضرحة شهدائنا..شهداء ثورة المجد والحرية والكرامة.. ثورة الكرامة بمعناها النبيل لدى شعب أوغل ليله في الظلم الظلام، تعني الفعل الذي لا يقف عند حدود الكلام والنوايا،إنّما هي فعلُ وجود يصرخ أمام كل العالم بأنّ القهر غير مقبول وبأنّ الحرية والعدالة مبدآن لا يمكن التخلي عنهما مهما كانت سطوة -الحاكم المستبد-وقدرته العجيبة على مراوغة شعبه ونهب أرزاقه في دهاليز الظلام.. رسالة -تونس الثورية-نبيلة في جوهرها،مقنعة بشجاعة شبابها وطلائعها وقدرة شعبها على الصمود والتحدي ومن ثم تجسيد آسمى أشكال النضال في سبيل إسترداد حقوقه السليبة والمستلبة..ومن هنا علينا أن نخرج من -دائرة المزايدات- وننآى بأنفسنا عن أنشوطة الخوف والترجرج ونفسح مجالا لضوء سيصير حتما بلدا جميلا.. لقد خرج الصّوت التونسي من الشرنقة التي نُسِجَت حوله ليعلن بوضوح تام أمام العالم أنّ الصّمت موت وغياب..والصمود حضور كما الفعل الثوري أقوى إنباء من أيّ كلام.. وإذن؟ هرب بن علي إذا،يحمل آثاما ولعنات من الصعب حصرها أو عدّها..تاركا بلدا يلملم صبره،يكفكف دمعه ويرنو إلى الأفق إستشرافا لغد أفضل..لم يكن الرئيس السابق يهتم بأشعار أبي القاسم الشابي ولا بهتافات الجماهير التونسية التي استلهمت من شاعر تونس العظيم (أبو القاسم الشابي) المعنى النبيل للتضحية والفداء،ولا كان يستوعب المغزى العميق لبيت شعري سيظل محفورا في ذاكرة الشعوب إلى الأزمنة القادمة:"إذا الشعب يوما أراد الحياة،فلابد أن يستجيب القدر"كان مهتما فقط بتكريس زواج رأس المال مع السلطة عبر عقدين ونيف من الزمن، ليحصد فيما بعد عواصف شعبية من الغضب العارم والسخط الجارف تراكمت بفعل القهر، وأصبح-الجوّ التونسي-تبعا لها يعبق بأسره برائحة الوليد القادم على مهل:"الثورة"..ثورة شعب لطالما تنزى في القيود.. لست أدري إن كان يشعر بوخز الضمير وطائرته تغادر المجال الجوي التونسي في إتجاه المنفى البعيد..ولست أدري إن كان كذلك قائد الطائرة يشعر -براحة البال-وهو يؤمّن هروبا عبر الجو "لشبح" ظل يحكم البلاد والعباد بالحديد والنار،ويسلب خيرات بلاده وأرزاق شعبه تحت جنح الظلام..؟ ! تفاصيل تلك الرحلة اللعينة لا تهمني،كما لا تعنيني أرقام وأحجام الأموال المنهوبة والمودعة في البنوك المنتشرة عبر أصقاع العالم..فتلك مسألة تدخل في إختصاص القضاء العادل والمستقل..كل ما يهمني هو أن يبنى بلدي على أسس ديموقراطية سليمة ويعيش هذا الشعب الجريح في كنف الحرية والعدالة الإجتماعية بمنآى عن التجاذبات السياسية العنيفية والتدافع-الحزبوي-وكذا-حسابات القسمة وتوزيع الأسهم..هذا الشعب الذي لم يطعن في كبريائه،ولم يفقد كرامته ولم تنل منه-سنوات الجمر-بقدر ما ظلّ -يرتّب- مواجعه إلى أن تحين لحظة الإنفجار ،وتهدر السيول لتجرف معها الدكتاتورية العمياء والقهر البغيض.. إنفجر البركان،وسقط النظام بعد أن قال الشعب كلمته المأثورة:" إرحل..Degage"..قالها بملء الفم والعقل والقلب والدّم..قالها وهو ينزع قيوده ليستجيب القدر لندائه.. هذا الشعب التونسي العظيم الذي فجّر ثورته بإرادة من لا يهاب الموت في سبيل إعلاء راية الحق،هو المالك الحقيقي لثورة الكرامة والمؤتمن على حمايتها والحائل دون الإلتفاف عليها ومصادرتها وركوب سروجها..قلت الشعب ولا أحد سواه،وما على التيارات السياسية والدينية والنقابية..إلا مراجعة حساباتها ومعرفة أحجامها حتى لا تبلغ حدّا من الغرور تتصوّر معه أنّها -صاحبة الفضل-في انبلاج فجر الحرية على ربوع تونس ومن ثم يحقّ لها تكريس الوصاية على الثورة..أو وضع اليد عليها !! أما "لجان حماية الثورة" فيكفي أن نقول لها:إنّ للثورة التونسية المجيدة شعب يحميها.. ومن هنا..علينا أن نتخلّص من عقال الفوضى،ننآى عن دائرة الصراعات ومربّع العنف،ونغلّب العقل عن النقل بعيدا عن منطق "الفئوية الحزبية" ثم ننشد ألحانا عذبة وجميلة،انتصارا مطلقا لدماء الشهداء و إجلالا وتقديرا لثورة الرابع عشر من شهر جانفي 2011: هناك كثيرون أمثالنا أعلّوا وشادوا وفي كل حال أجادوا.. ونحن كذلك ضحينا بما كان عزيزا علينا عظيما،جليلا..وما عرف المستحيل الطريق إلينا.. لأنّنا نؤمن أنّ القلوب،إن فاضت قليلا.. ستصبح رفضا.. و نصرا نبيلا.. تمنّينا أن يعيش شعبنا عزيزا كريما.. تمنينا أن يرفع الظلم عنا.. لذا.. فعلنا الذي كان حتما علينا.. وما كان قدرا على المستضعفين جيلا..فجيلا..