عندما تستمع إلى راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو ولطفي زيتون ، وهم يتحدثون ، بلغة أخرى ومفاهيم جديدة وأسلوب مختلف عن مدنية الحركة وقطعها مع الإسلام السياسي و تبرئها من تنظيم "الإخوان المسلمين" ومعارضتها لعودة الإرهابيين الذين تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء في سوريا والعراق وليبيا ، تستشف إنقلابا جذريا في الخطاب السياسي لدى هؤلاء ورغبة واضحة في الإصلاح ومواكبة التطورات الحاصلة في البلاد وخارجها ، وحرصا شديدا على إنقاذ الحركة ودرء التهم التي تستهدفها وبالتالي تأمين تواصلها و0متدادها كرافد مدني للعمل السياسي تدعيم المسار الديمقراطي في البلاد، قبل إتخاذ الخطوة العملية التي لا بد منها، وهي تغيير ميثاق الحركة وتخليصه مما علق به من شوائب تتعارض مع التوجه الجديد، لكن عندما تتمعن في الخطاب المضاد الذي يروج له عبد اللطيف المكي ومحمد بن سالم وعبد الكريم الهاروني وهم يتحدثون ب0سم حركة النهضة ، تتراءى لك الهوة شاسعة جدا بين التيارين إلى حد الإعتقاد بأن هذه الحركة التي عرفت بوحدتها الصماء قد أصبحت حركتين إثنتين متصادمتين ، فعندما يعلن الغنوشي أو مورو عن رفض الحركة لعودة الإرهابيين يجيب محمد بن سالم بأن عودتهم شرعية بل يذهب إلى نفي صفة الإرهاب عنهم ، ولما يؤكد لطفي زيتون أن محمد الزواري ، الذي تم إغتياله أخيرا في عملية مازالت غامضة، لا ينتمي للحركة، يجيبه عبد اللطيف المكي بتنظيم مظاهرة في صفاقس تكريما له ، وفي خضم ردود الفعل الصاخبة ضد تصريحات رئيس الجمهورية المؤقت سابقا، محمد المنصف المرزوقي، الذي وصف الشعب التونسي بالكذب والنفاق والإنحلال الأخلاقي، وقف محمد بن سالم مدافعا عنه ، بالرغم من إنتقاداته اللاذعة للحركة خلال إنعقاد مؤتمرها الأخير الذي قاطعه، ووصفه بأنه " أفضل " من الباجي قائد السبسي ، الشريك القوي لراشد الغنوشي وحليف النهضة في الحكم ! أخيرا وفي غمرة الإحتجاجات الصاخبة في تطاوين وجد النائب عن حركة النهضة في مجلس نواب الشعب المدعو حسين اليحياوي ما يكفي من الحقد الأسود ليقول أن ثروات تطاوين منهوبة وتذهب مداخيلها إلى منطقة الساحل (هكذا) في تحريض علني مفضوح على الفتنة الجهوية ، وهي، لو علم ، أشد من القتل كما جاء في ديننا الحنيف لكن هذا "النائب" الذي ينتمي إلى حزب ذي مرجعية إسلامية عمل بما يخالف تماما تعاليم الإسلام ، وهذه من الكبائر حسب الفقهاء! كان أغلب التونسيين الذين صدمهم هذا القول الخطير جدا بإنتظار موقف من حركة النهضة تتبرأ فيه مما أتاه حسين اليحياوي لكن خيبة الأمل كانت كبيرة وأحرجت كثيرا قياديي الحركة وأتباعها في جهة الساحل بالخصوص . تفسر الأحزاب والتيارات المعارضة لحركة النهضة هذا التناقض بين خطابين "رسميين" لقياداتها بجنوح الحركة إلى ممارسة إزدواجية خطابية قصد توزيع الأدوار والإيهام بوجود توجهات إصلاحية تلاقي رفضا من تيارات متشددة ، ولكن المنطق يرفض هذا التأويل المتسرع لأن توزيع الأدوار، إن تم إعتماده وحصل، فلن يكون بهذه الحدة ، خاصة وأن التجربة أثبت فشل مثل هذه الممارسات في السابق ولم تعد تنطلي حتى على أبسط العوام ! ماذا يحدث إذن؟! كنا أجبنا عن هذا السؤال في تحاليل سابقة وأكدنا ، بالإثباتات، أن حركة النهضة تعيش مخاضا إصلاحيا عسيرا ، نتجت عنه صراعات شديدة بين الإصلاحيين المدركين لأهمية التغيير في التحولات الداخلية والخارجية العميقة والمتسارعة، وقوى الجدب إلى الخلف من محافظين ومتشددين ومتطرفين الذين لم يستوعبوا هذه التحولات بل لم يعترفوا بها أصلا!!! ومما لا شك فيه أن مصير الحركة ستحدده نتيجة هذا الصراع الذي خرج من الكواليس وأصبح معلنا ويزداد إضطراما من يوم إلى آخر.