بقلم: فؤاد العجرودي يرجح أن تكون الاجتماعات الكبرى التي عقدها «نداء تونس» خلال الأيام الأخيرة في عدد من المناطق أهمها الزهور بغربي العاصمة ونابل قد وضعت الحزب الحاكم على سكة العودة إلى نقطة الانطلاق أي الاستناد أساسا إلى الالتصاق بالشعب عبر خلق تعبئة شاملة لصون المشروع الوطني السيادي الحداثي. بل إنّ البُعد الشعبي لتلك الاجتماعات قد أعاد للذاكرة ذاك التحوّل في الفعل الدستوري الذي صنعته دار عياد مع إطلالة ربيع 1932 والذي أخرجه من الأطر السياسية النخبوية الضيقة ليقذف به في العمق الشعبي بكل مكوناته ومكسبا للنضال الوطني نجاعة وقوة وعزيمة وصبر استندت أساسا إلى إثارة واعز «الكرامة» لدى التونسيين. تلك الكرامة التي قد تكون خدشت في العمق عقب الضربة الإرهابية الهمجية التي استهدفت التاريخ والجغرافيا معا عندما تجاسرت على «سوسة» بالذات إحدى معاقل النضال الوطني وأركان بناء الدولة الوطنية المدنية الحديثة كما ضربت في الصميم مرتكزات وصفة الإنقاذ.. في مرحلة حرجة تمر بها البلاد ولا تتحمّل مزيدا من الإرباك أو إضاعة الوقت. «التنّين» أو «اليونان 2» ولعل نجاح المؤسسة الأمنية في «الثأر» لنفسها وكل من الدولة والوطن وضيوف تونس ضحايا «الأمبريال» في ظرف أسبوعين فقط هو حدث مثير ل«الحياء» إزاء الأعباء الزائدة عن النصاب التي أُلقيت على كاهل الأمنيين والعسكريين فيما النخبة تعصف بها رياح الأنانية واللامبالاة واللاوعي بعيدا عن أوجاع الوطن. بمعنى آخر إنّ «المسألة الأمنية» التي تعد أهم مفاتيح الخروج من الوضع الراهن لن تحسم ما لم تغلق ثغرات كثيرة تعطل الفعل الإصلاحي داخل شرايين الدولة وأخرى على الميدان تضعف واعز المواطنة وكلاهما يحتاج إلى حزب حاكم قادر على دفع الإصلاح في القمة وتأطير المواطن بما يتلاءم مع متطلبات الإصلاح على الأرض وذاك جوهر الدور الذي أوكله الدستور للأحزاب. ضربة سوسة قد تكون أيضا «القطرة» التي أفاضت مخاوف الندائيين من احتمال أنهم سائرون نحو تحمل مسؤولية فشل لا فقط في إصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية وإنّما بالأساس في صون نمط حياة التونسيين ومكتسباتهم الحضارية التي كانت نتاج تضحيات جسيمة على امتداد ستة عقود واضطلع فيها «عمق» النداء الدستوري بدور القاطرة بل إنّ تلك الضربة بالذات قد تكون وضعت البلاد برمّتها أمام خيار لا يتحمّل التردّد أو التأجيل بين إحياء مشروع «تنين» المتوسّط الذي تملك تونس على الورق سائر أدواته أو النزول درجات أخرى إلى الأسفل والاستسلام لسيناريوهات كريهة قد يكون أقلها قتامة «اليونان 2» بما يعنيه ذلك من تسريح لجحافل من العمال وخفض الأجور مع صداع ثقيل في الرأس يختزله سؤال محيّر.. من سيموّل فاتورة الإنقاذ وقتها؟ ذاك الخيار يتزامن مع هبوب عاصفة هوجاء على المنطقة معلنة عن طور متقدّم من النظام العالمي الجديد بسائر عناوينه والذي أثبتت التجربة أنه أوجد بالدواعش ومن لفّ لفّهم ما يغنيه عن الوقوف «محرجا» على أعتاب مجلس الأمن الدولي.. لكنه يترك في ذات الوقت مساحات واسعة للمناورة أمام القرار الوطني من أجل «تشحيم» المحرك بما يتلاءم مع مقتضيات العولمة التي لن ترحم ذوي الأظافر المقلّمة والنائمين في العسل ولن تستفيد منها سوى الشعوب القادرة على الإنتاج والعمل والإبداع أكثر من غيرها. نار البطالة بمعنى آخر إنّ سقف التطلعات ولا سيما في أوساط الشباب الذي يكتوي بنار البطالة كما يتهدّده الموت البطيء جرّاء قصور روافد التنشئة وأساسا التعليم والرياضة والفنون عن تعديل ساعتها على توقيت الأجيال الصاعدة.. لا يتلاءم البتة مع مستوى الجهد الوطني حيث تتشكّل هوة سحيقة بين «المتاح» و«الحاصل» نتيجة تواصل الاحتكام إلى أدوات تشريعية وترتيبية ومفاهيم ثقافية لن تنتج سوى مزيدا من البطالة والفقر والتهميش وتبدو «عاقرا» عن توليد مواطنة حقيقية تتأسّس على ازدواجية الحقوق والواجبات فيما تمتلك البلاد بالقوة ميزات تفاضلية كثيرة أولها خصوصية اليد العاملة «الخامدة» التي سيظل التوفّق في استيعابها أول شروط الطفرة المنشودة في النمو التي توفّر مقومات العيش الكريم لكل المواطنين وتدمج البلاد في مكانها الطبيعي ضمن القاطرة الأولى لما يسمّى البلدان الصاعدة. لوحة قيادة والواضح أنّ تلك التحديات تحتاج إلى حزب حاكم قادر على تجديد وتسريع الفعل الإصلاحي بما يتلاءم مع استحقاقات العصر عبر إعادة هضم مجمل التحوّلات الداخلية والخارجية بما يمكّن من صياغة وصفة إنقاذ تكون «لوحة القيادة» التي توجه الحكومة والشعب معا. هذا الدور سيقتضي أساسا تحمّل «نداء تونس» بشكل صريح وفعلي مسؤولية الحكم وقدرة على التغلغل في العمق الشعبي وهو ما يستدعي بالضرورة مزيد توسّع «النداء» على محيطه الطبيعي سواء الدستوري أو الوسطي ووضع حدّ لتداعيات «العناد» الذي خلقته مقاربة السّابقين واللاحقين والأهم من ذلك المراهنة الفعلية على الشباب الذي قاد معركة البناء بعيد الاستقلال ثم مسار إنقاذ البلاد من الأزمة الخانقة والضبابية المقيتة التي آلت إليها الأوضاع في نهايات زمن بورقيبة التي كاد يسقط فيها المشروع الوطني الحداثي بالضربة القاضية... تداعيات حينية في خضم تلك القراءة يبدو أنّ «النّداء» سائر نحو وَأْدِ خلافاته والعودة بقوة إلى دوره الوطني وهو معطى سيقلب الأوضاع 180 درجة ويرجح أن تكون له تداعياته الحينية على أكثر من صعيد بدءا بالحكومة ذاتها التي قد تشهد وخلافا لما يعتقد البعض تحويرا في غضون أسابيع قليلة يزيد في نفوذ النداء بما يتلاءم مع خيارات الناخب والمسؤولية الخطيرة التي ورثها.. وكذلك على قواعده التي بدأت تتحسّس بوادر تغيير ستفتح كثيرا من الأبواب التي أغلقت إبان ذروة الحيرة والفراغ عقب تشكيل الحكومة الحالية وهو مسار سيدرك مداه بالإعلان عن الانطلاق الفعلي للمؤتمر الوطني الذي يرجح أن يتم حسمه في الأيام القادمة بما يؤشّر على أن الحزب ماض في تغليب المصالح العليا من منطلق الاقتناع بأن مصيره والبلاد قد يكون واحدا. خلق الثروات لا يستبعد أيضا أن يفرض النداء خلال المدة القادمة مقاربة تقوم على إعطاء الأولوية القصوى لدفع نسق خلق الثروات بما يتطلبه ذلك من إصلاحات تشريعية وترتيبية ومالية ورفض لكل الممارسات التي تربك عجلة الإنتاج مهما كانت دوافعها إلى جانب الاضطلاع بدور قيادي في دفع مسار المصالحة الوطنية استنادا إلى قناعة آخذة في التوسّع بكون الأزمة الحادة التي أدركتها البلاد نشأت بالأساس عن تحييد جزء واسع من كفاءات البلاد خاصة في قطاعات الإدارة والأعمال والسياسة.