مفهوم عبارة «ما ملكت أيمانكم» بيان مفهوم ما اصطُلِح على تسميته «ملك اليمين» ولأهميته وكثرة ما لُبِّس فيه على القرآن والسنة، يستأهل بحثاً مخصوصاً يلزم فيه الإطناب لتعدد أوجه القول فيه .. ولكننا سنتوخى الإيجاز والتبليغ ما سمح به عرض المفهوم واقتضته ضرورة دحض أباطيل السابقين وتعرية انحرافاتهم، فنَعرض مفهوم السابقين (أ) ثمّ نطرح رأينا ختاماً (ب) نعتقد فيه الصحة والوجاهة وموافقة القرآن الكريم، ونأمل منه تقويم ما انحرف في عقائد الناس إعلاءً لشأن الإسلام الذي يتبرّأ من الإساءات التي طالته جرّاء ما ساد من مفاهيم عن موضوع «ملك اليمين»، كان من أهم أسبابها ما تضمنته كتب الحديث التي ظهرت بعد منتصف القرن الهجري الثاني على أيدي البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة وأحمد وتلامذة مالك وغيرهم من روايات وأحاديث منسوبة زوراً وبهتاناً للرسول ولأهل بيته وصحابته أولاً.. والفهم المنحرف لآيات القرآن الكريم من خلال التسليم بصدقية الروايات والأحاديث التاريخية وتقديمها كأنها حقيقة ثابتة مقدّسة لا يمكن مناقشتها أو التشكيك فيها من جهة، ومن أخرى غياب منهجية علمية واضحة ودقيقة تُعتَمَدُ لفهم القرآن وتفسير آياته ثانياً.. فكان الانطلاق عندهم دائماً من مقدّمات خاطئة لا تُفضي إلاّ إلى نتائج خاطئة. أ- مفهوم السلف السائد لما يُسمى «ملك اليمين»: لننظر إلى ما تضمّنته بعض كتب الحديث وخصوصاً «موطّأ» مالك و«صحيح» البخاري و«صحيح» مسلم من روايات وأحاديث.. ثمّ إلى ما درج «العلماء» والوعّاظ والمفتون على ترديده وتعليمه للناس: جاء في كتاب «صحيح مسلم» الحديث رقم 1365 وفيه: «حدّثني زهير بن حرب..... وجُمع السّبي فجاءه دحية فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السّبي فقال «اذهب فخذ جارية « فأخذ صفية بنت حييّ، فجاء رجل إلى نبي الله فقال: يا نبي الله أعطيت دحية صفيّة بنت حييّ، سيد قريظة والنظير، ما تصلح إلاّ لك، قال «ادعوه بها» قال فجاء بها، فلمّا نظر إليها النبيّ قال «خذ جارية من السّبي غيرها».قال واعتقها وتزوّجها...». وأُجزم أنّ هذا الحديث موضوعٌ ملفّقٌ لما فيه من إساءة شديدة ومتعمدة لرسول الله، ومظاهرها واضحة يقْدِر على إدراكها الجميع، ولوروده مخالفًا لأمر الله تعالى لرسوله الكريم في شأن أسرى الحرب حينما قال «فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّّا مَنَّا بَعْدُ وَإمَّا فِدَاءً ...» (سورة محمد 4). فالآية لم تُجِزْ، لا السبي ولا تملّك الأسير أو استرقاقه وإنّما حسمت الأمر في حالتين لا ثالث لهما: إمّا المنّ أي التفضّل بإطلاق سراحه. وإمّا الفداء أي مبادلته مقابل المال أو أسير من المسلمين. وجاء في نفس الأثر الحديث رقم 1456 وفيه افتراء على رسول الله وعلى صحابته ومناقَضَة للقرآن، وإساءة الاستشهاد به. يقول الحديث: «حدّثنا عبيد الله بن عمر ... أنّ رسول الله يوم حُنين بعث جيشًا إلى أوطاس (موضع عند الطائف) فلقوا عدوًّا، فقاتلوهم، فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا، فكان أناسًا من أصحاب رسول الله تحرّجوا من غشيانهم (أي مواقعتهم) من أجل أزواجهنّ من المشركين، فأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك: «وَ المُحْصَّنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُمْ (النساء 24 ) أي فهنّ لكم حلال إذا انقضت عدّتهنّ». وسنأتي لاحقًا على تفسير الآية 24 من سورة النساء لنبيّن تعلّق معانيها بغير ما سِيقْت من أجله في الحديث. وجاء في كتاب «الموطّأ»: «و حدّثني عن مالك، عن ... أنّه كان يقول: لا تنكح الأَمَةُ على الحُرَّةِ. فإن طاعت الحرّة، فلها الثُلثان من القسم. قال مالك: ولا ينبغي لحرّ أن يتزوّج أَمَةً، وهو يجدُ طولاً لحُرّة. ولا يتزوّج أمَة إذا لم يجد طولاً لحرّة، إلاّ أن يخشى العَنَتَ. وذلك أنّ الله تبارك وتعالى قال في كتابه: ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصّنات المؤمنات فممّا ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات. وقال، ذلك لمن خشي العنت منكم». حديث 29 ص 536. وجاء فيه أيضا: «حدّثني يحي عن مالك، عن ... أنّ عمر بن الخطاب سُئل عن المرأة وابنتها من ملك اليمين. توطّأُ إحداهما بعد الأخرى. فقال عمر: ما أحبّ أن أَخْبُرَهُما جميعًا. ونهى عن ذلك» حديث 33 ص 538. وجاء فيه أيضاَ: «حدّثني يحي عن مالك، أنّه بلغه أنّ عمر بن الخطاب وهب لابنه جارية. فقال: لا تمسّها. فإنّي قد كشفتها» (و معناها نظر إلى بعض ما تستره من جسدها على وجه طلب التلذذ والاستمتاع) (حاشاه عُمر ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله، والقول لي وليس للحديث). وحدّثني عن مالك، عن ... أنّه قال: «وهبَ سالم بن عبد الله لابنه جارية فقال: لا تقربها. فإنّي قد أردتها (أي على الجماع)، فلم أنشط إليها». حديث 36 ص 539. وفي نفس الأثر: «قال مالك في أمّ ولد رجل من المسلمين، حازها المشركون، ثمّ غنمها المسلمون. فقُسِمت في المقاسم، ثمّ عرفها سيّدها بعد القسم: إنّها لا تسترق. وأرى أن يفتديها الإمام لسيّدها فإن لم يفعل فعلى سيّدها أن يفتديها ولا يدعها. ولا أرى للذي صارت له أن يسترقّها، ولا يستحلّ فرجها. وإنّما هي بمنزلة الحرّة. لأنّ سيّدها يكلّف أن يفتديها، إذا جرحت فهذا بمنزلة ذلك. فليس له أن يُسلّم أمُّ ولده تُسترق، ويُستحلّ فرجها» ص 453. وجاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة (تأليف عبد الرحمان الجزيري طبع المكتبة التوفيقيّة) الجزء الرابع صفحة 66 وفي معرض بيان «اللاتي لا يصحّ العقد عليهنّ» ما نصّه: «ثانيها: الملك، فلا يحلّ للمرأة أن تتزوج عبدها، ولا يحلّ للرجل أن يتزوّج أَمَتَهُ إلاّ بعد العتق». ومعلوم أنّ الحديث في هذه المصادر عن «العبد» و«الأمَة» مراد لما يطلقون عليه اسم «ملك اليمين». وبإجراء بحث سريع في شبكة الأنترنات نكشف كمًّا هائلاً من المواقع التي تتحدّث عما يُسمى «ملك اليمين» وأهمّها: موقع: الإسلام سؤال وجواب حكم جماع الإماء مع وجود الزوجة وفيه نقرأ: «أباح الإسلام للرجل أن يجامع أمَته سواء كان له زوجة أو زوجات أو لم يكن متزوّجًا. ويقال للأمَة المتّخذة للوطء «سريّة» مأخوذة من السرّ وهو النكاح. ودلّ على ذلك القرآن والسنة وفعَله الأنبياء....». ونكتفي بهذا، وأشهد أََنَّهُ لكذب وزور وتلفيق وقول دنيء فاقد لكلّ حجّة أو برهان، فلا القرآن أجاز اتّخاذ النساء من غير زوجة الحلال مصدرًا للذة أو خلقها لتفتيق غريزة شهوانيّة بربرية، أو شرّع استرقاق الناس ذكرانًا أو إناثًا صغارًا أو كبارًا، ولا السنّة الشريفة أجازت أيّاً من ذلك ، ولا أحد من الأنبياء أو الرسل أتى هكذا فُحشًا ... حاشاهم الله. موقع: مفهوم ملك اليمين في الشريعة الإسلامية: شبكة الفتاوى الشرعية: وفيه يذكر «المفتي» ما نصّه: «فملك اليمين في الشريعة الإسلامية هو: المرأة الأسيرة في الحرب المشروعة التي ضرب عليها إمام المسلمين الرق وملكّها لأحد المجاهدين، وعندها تصبح بذلك ملك يمينه ...». موقع: إسلام ويب مركز الفتوى: رقم الفتوى 8720 ونقرأ فيه العجب العجاب التالي: «..... و المقصود بقوله «أو ما ملكت أيمانكم»، النساء من الرقيق وهنّ الإماء، إذ يحقّ لمالكهنّ أن يطأهنّ من غير عقد زواج ولا شهود ولا مهر فهنّ لسن أزواجًا، فإذا جامعهنّ سمّين «سراري» .......». فهل يبقى بعد ترديد هذه التخريفات من حجّة لدى القائلين بها للدفاع عن الإسلام والإصداع بأنّه حرّم العلاقات الجنسية خارج إطارها الشرعي وهو مؤسّسة الزواج ؟ وهل يختلف فهمهم هذا عن مفهوم الغانية أو الخليلة أو حتّى المومس ؟ ألم يدركوا جسامة خطإ مفاهيمهم التي أوصلهم حدّ التشريع للتمييز بين خلق الله وتخويل الحق للبعض في التملّك ببعض والاستمتاع به كأنّه شيء من الأشياء ؟ ألم يعوا قول الله تعالى: «وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَ حَمَلْنَهُمْ فِي البَرِّ وَ البَحْرِ وَ رَزَقْنَهُمْ مِنَ الطَّيِبَتِ وَ فَضَّلْنَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً» (الإسراء 70) أهكذا يكون التكريم ويكون الرزق ويكون التفضيل على باقي المخلوقات ؟ إلاّ إذا لم تكن المرأة لديهم من بني آدم. (البقية في عدد لاحق) بقلم الأستاذ مختار الحجلاوي المحامي لدى التعقيب بسيدي بوزيد [email protected]