مثلما سبق ونبّهنا إليه وتحسسّناه عبر أعمدة «التونسية» وقعنا في المحظور وحصل ما كنّا نخشاه جميعا وانتفضت جماهير النادي البنزرتي على قرار مكتب الرابطة القاضي بتأهيل النادي الإفريقي إلى مرحلة البلاي أوف على حساب فريق قرش الشمال ولئن كنّا نوقن في سريرتنا أن الأمور كانت ستخرج حتما عن إطارها الرياضي بسبب أصوات التعبئة الشعبوية التي أطلقها البعض في الساعات القليلة الفارطة وخاصة محاولات التجييش التي اعتمدها كلا الطرفين من هنا وهناك في سعي مكشوف للتأثير على قرار الرابطة فإن ما حصل أمس الأوّل في بنزرت فاق كلّ التوقّعات وكشف عن حجم الانفلات الأخلاقي والأمني اللذين يعيشهما الشارع التونسي بمختلف ألوانه وأطيافه... مستعمر جديد... عاصمة الجلاء التي ضربت أروع الأمثلة في مقاومتها للمستعمر الفرنسي في حقبة ظلّت مبعث فخر واعتزاز لكّل التونسيين تجاه ما قام به «البنزرتية» في سنوات الكرّ والفرّ تهاوت أمس الأوّل أمام همجيّة بعض «الأفراد» الذين حوّلوا مطالب فريقهم الشرعية إلى مطيّة ملغومة للركوب على سطح الأحداث وتخريب ما تيسّر من الممتلكات العامة ونهب ما يمكن نهبه في صورة قاتمة لما وصلنا إليه اليوم من فوضى خلاّقة ومن فلسفة النيران التي توقد متى جاعت البطون... أن يثور جمهور النادي البنزرتي على قرار اعتبروه جائرا فهذا مفهوم جدّا وان تتعالى صيحات الرفض لسياسة الميكيالين ولسلطان المال فهذا وارد إلى درجة ما مهما اختلفت الروايات والتأويلات وأن يكون الشارع ملاذ الغاضبين وحضن الثائرين فهذا مقبول وتونسي بامتياز و«ربّي يبارك في ثورتنا» أمّا أن يقدم بعض «الشواذ» على حرق العلم التونسي فهذا جنون ما بعده جنون وجريمة نكراء في حق كلّ التونسيين الذين لا يعنيهم كثيرا ما يحصل في بطولة «العار» ويسوؤهم كثيرا أن تحفظ كرامة قطر غضبا ويهان علم تونس علنا... الصورة التي تناقلتها عديد العدسات تعدّ سابقة صادمة خاصة و أن العلم التونسي لم يحرق في ساحات الحرب أو بأياد عميلة وخائنة بل انتهكت حرمته في بنزرت عاصمة الجلاء وبأياد تونسية خالصة رفضت الانصياع إلى قانون اللعبة ولم تهضم تلاشي واحتراق «حلم البلاي أوف» فأحرقت راية الوطن الذي تبلّل بدماء التونسيين جيلا يربط جيلا و استشهد لأجله المئات والمئات بشهادة العائلة البنزرتية نفسها التي كانت شريكا فاعلا في ملحمة الجلاء... ما عجزت عن تحقيقه جيوش فرنسا على امتداد سنوات وسنوات نجحت في تحقيقه كرة القدم هذا المستعمر الجديد الذي لهف عقول الشباب وأسر تفكيرهم وحوّلهم إلى بيادق حجرية وقوالب جاهزة تحرّكها أياد خفيّة...تلهب حماستهم وتنفخ في رمادهم وتبعث بهم إلى محرقة لا ناقة لهم فيها ولا جمل بفتاوى مزعومة تبني للجهويات والتعصّب الأعمى لكرة مريضة ملعونة في بطولة منحرفة عنوانها الويكلو وقوامها اللعب تحت الطاولة وأحيانا كثيرة تحت الحزام... جماهير النادي البنزرتي الوفيّة لراية فريقها وللعلم التونسي ترفض ما أتاه صاحب النفس المريضة الذي فكرّ وخطّط لحرق العلم وهي تعي جيّدا أن غضبها الهادر كان صرخة ألم ضدّ من اغتالوا حلمهم المشروع و ما حصل من حرق واعتداءات على الأملاك والممتلكات فهو لا يمثّل سوى تجّار الخراب وعرّابي الموت... شركاء في الجريمة... ما حصل في بنزرت كان يمكن ألا يتعدّى حدود العصيان العفوي وربمّا أقصى ما يمكن ان يبلغه هو تجميد النشاط إلى حين تلين القلوب وتهدأ النفوس لكن النافخين في مزمار الشيطان كان لهم رأي مغاير والعازفين على وتر «الدولة البنزرتية» وفريق «العشب» سلكوا طريقا مغايرة فأجّجوا العواطف وألهبوا الحماسة ونصبوا المشانق لقانون الرابطة ولفصولها البالية والنتيجة يوم أسود في بنزرت على كلّ التونسيين... مكتب الرابطة الذي خيّر لدواع تخّصه هو لا غير الحسم في قضيّة الفصل 22 سخّن الأجواء وفسح المجال أمام فتاوى بالجملة تخدم مصلحة هذا وترشّح كفّة ذاك ما هيّأ أرضية ملائمة لميلاد نظرية المؤامرة فكان ما كان...الرابطة شريك في الجريمة لأنّها دفنت رأسها في التراب واحتجبت وراء فصول واهية وتبريرات بالية فاحتدم الجدال ودخل رجال السياسة على خطّ اللعبة وحشدوا الانصار ترقبّا لأيّ قرار... الكلّ يتحدّث عن الشارع ومشروعية الاحتجاج والبعض سلك طريق العواطف فجيّش أنصاره ليظهر في صورة القائد... مهدي بن غربية الذي فتح النار في وقت سابق على هيئة الترجي التونسي ورئيسها حمدي المدّب وتسبّب بعمد أو دونه في توتير العلاقة بين جماهير الناديين عاود الكرّة هذه المرّة من جديد ضدّ فريق باب الجديد الذي دخل بدوره على سير التصريحات والتصريحات المضادة واستلهم مفردات الشعب والثورة ليكون النزال عفويا وتكون الدعوة ضمنيّة بالنزول إلى الشارع أعلى سلطة في هذه البلاد... النتيجة كانت خرابا بالجملة والخسائر كانت بنزرتية اللون والهوى لأنّ قرش الشمال كان هو الطرف المتضرّر ولو حدث العكس لكانت ألسنة اللهب في الكفّة المقابلة... من المفروض أن المسؤول العاقل هو من يتحسّس طريق الكلمة قبل أن يلقي بها ومن المفروض أنّ حالة البلاد والعباد وما نشهده من انفلاتات صباحا مساء ويوم الأحد لا تتحمّل مزيدا من المزايدات وكان أولى ببن غربية ومن والاه من جهة وبعماد الرياحي ومن بايعه من جهة ثانية ضبط النفس وعدم الانسياق وراء حملات التعبئة وتجنيد الأنصار لغايات تبدو في ظاهرها رياضية لكن جوهرها منمقّ بعطر السياسة الخالص...والفاهم يفهم...