منجي المازني يسيطر علي الحزن ويعتصرني الألم وتتملّكني الحيرة كلّما نظرت وتأمّلت في حال وسلوك أطفال وشباب اليوم ! وأتساءل عمّا أصابهم وما دهاهم ؟ بل عمّا أصاب المحيط والمجتمع المدني الذي يحتضنهم ؟ هل مازال الجميع يخضع إلى خارطة طريق ويلتزم بمدوّنة سلوك أخلاقية ؟ أم تمزّقت الخارطة وتاه الجميع في الصحراء بدون دليل ولا عنوان ؟ لقد تاه الأطفال والشباب في غفلة من المربّين في ظلمات الجهل والخواء الروحي والتفسّخ الأخلاقي. فأصبح لا يختلف عن جثّة هامدة بلا روح تسري فيها. قبل عقود ورغم سعي دولة الاستقلال إلى تدمير القيم ونشر الرذيلة وإشاعة الفاحشة ، فإنّ السواد الأعظم من الناس كان حينذاك لا يزال متمسّكا بالثوابت الأخلاقية ولا يزال يخيّم على معظم سلوكياته مسحة من الحياء ونفس من الرجولة والاعتداد بالنفس. وكان الصغير يوقّر الكبير ولا يتفوّه في حضرته بسوء القول. وإن حصل واخطأ يتوارى عن الأنظار خجلا وخوفا من التأنيب والعتاب. وكانت نصيحة الشيخ الكبير والمعلّم والأستاذ والمدير والمربّي تسري في المجتمع بكل سهولة ودونما صعوبات. غير أنّ الحال قد أضحت غير الحال. بل تغيّرت للأسوإ وقلّ منسوب الوازع الديني والأخلاقي وتدنّى إلى أدنى الدرجات. حيث لم يعد للشيخ الكبير وقار في قلوب الشباب ولم تعد للمعلّم والأستاذ والمدير والمربّي هيبة لديهم. ولم يعد بيت أحمد شوقي : 'قم للمعلّم وفّه التبجيلا كاد المعلّم أن يكون رسولا' شعارا يستلهم منه الشباب وجوب الاقتداء بالمعلّم وإيلائه التقدير والاحترام الذي يستحق بحيث يكون لهم دليلا للتوجيه والاستقامة. لذلك أصيبت فجأة كلّ المعاني السامية بفيروس 'قلّة الحياء' والتهوّر والجدال العقيم وانحلّت كل المنظومة الأخلاقية بمفعول هذه الفيروسات. ومن مظاهر ذلك أن درج الأطفال والشباب ذكورا وإناثا على التعرّي الفاضح والتفوّه بالكلام البذيء في الطريق وفي الساحات العامّة دون أدنى مبالاة بمن يسمعهم أو يلتفت إليهم ودون أدنى مراعاة لشعيرة الحياء. ومن مظاهر ذلك تقبيل الفتيان والفتيات بعضهم بعضا في الطريق العام وأمام المعاهد الإعدادية والثانوية دون الشعور بأي حرج ودونما أدنى مراعاة للضوابط الأخلاقية. إلى حد أنّ أحد تلاميذ السنة السابعة أساسي وبكلّ براءة أسرّ إلى أمّه أنّه تمنّى لو واصل تعلّمه بالمدرسة الابتدائية. ولمّا سألته عن السبب أجابها بالقول بأنّ بعض التلاميذ،ذكورا وإناثا، يتبادلون القبل بحرارة وراء جدار المدرسة.!!! فكيف لنا أن نصدّق الخطاب الرسمي لدولة تدّعي حماية الطفولة وهي تسمح باغتصاب براءة الطفولة باللّيل والنهار ؟ يالها من مفارقة عجيبة ؟ عديدة هي الأسباب التي أدّت إلى هذا الانحطاط الأخلاقي الغير مسبوق. ولعلّ أهمّها ثلاثة أسباب : التنشئة الخاطئة نظرا لما عاشه وكابده جيل ما بعد الاستقلال من ظروف قاسية وشاقّة من مثل النقص في أغلب ضرورات الحياة، فقد عمل هذا الجيل كل ما في وسعه على تنشئة أبنائه في ظروف مريحة توفّر لهم كل حاجياتهم الأساسية والكمالية إلى حد توفير أدوات الترفيه وتوفير الدروس الخصوصية في أغلب المواد. فأحسّ الأبناء أنهم مدلّلون أكثر من اللاّزم لذلك استشاطوا في طلب المزيد من الدلال وفرضوا على أوليائهم مزيدا من الالتزامات وصلت إلى حد توفير كل جديد في عالم الموضة وتوفير مصاريف للتدخين ؟ في ظلّ هذه المناخ لم تول الدولة العناية الكافية لتربية الأبناء. ولم تسع بالقدر المطلوب لمد الأسرة بأبجديات التربية ولم تسع لنشر مفاهيم وأصول التربية الصحيحة في المجتمع عبر وسائل الإعلام وخاصّة المرئية. بل كان كلّ همّها نشر ثقافة العري والتعرّي ونشر الفاحشة وهدم القيم بكلّ السبل الممكنة. فعلى سبيل الذكر لا الحصر ساهم المسلسل الهزلي "شوفلي حل" بما عرضه من مفاهيم وسلوكيات خاطئة وقبيحة وإيحاءات جنسية،منذ ما يزيد عن 20 سنة، في إفراز جيل متواكل غير منتج همّه في بطنه وفرجه يتحيّن الفرص للاحتيال على النّاس ويتحيّن الفرص للتعرّي وارتكاب الفواحش. نحن لسنا ضدّ المسلسلات الهزلية التي تروّح عن النفس. ولكنّ المسلسلات الخبيثة التي تحمل السمّ في الدسم يكون وقعها أشدّ وضررها مضاعفا في ظلّ غياب منوال أخلاقي ساتر يحمي النّاشئة من كلّ التجاوزات العرضية. هذه التربية الخاطئة والحماية المفرطة للأطفال في ظلّ محيط خال من الوازع الأخلاقي ساهمت في صنع جيل إمّا مهزوز لا يستطيع التعويل على نفسه في مستقبل الأيام كما يشير إلى ذلك المختصّون أو جيل عقيم كثير الجدال، مستبدّ برأيه، هو بمثابة نواة لمشروع استبدادي. فلا فرق بين مستبدّ يسخّر طاقات شعبه من أجل تأمين مصالحه الشخصية وآخر يسخّر إمكانيات عائلته ويبتزّهم من أجل تأمين كل حاجياته وكمالياته. استقالة المجتمع المدني كان من نتائج الحملة الأمنية الشرسة التي شنّها المخلوع وما رافقها من رعب استقالة أغلب مكوّنات المجتمع المدني من دورها المجتمعي المناط بعهدتها. ذلك أنّ الانتماء إلى جمعية غير مرخّص فيها وتمويل حركة إرهابية وكلمة "اخوانجي" كلّها كلمات وتهم من الوزن الثقيل كافية للزجّ بأصحابها في غياهب السجون لسنوات عديدة. فهي تهم جاهزة للتسويق ليس فقط ضدّ كل من يشتمّ منه انّه معارض للنظام القائم بل ضدّ كل من يشتمّ منه أنّه ينتمي للهوية العربية الإسلامية. فكان أن استقال الشيخ الكبير واستقال المعلّم والأستاذ والمدير والمربّي والداعية من دورهم في التربية والتوجيه والإحاطة. وانحسرت الفضيلة وانتشرت الرذيلة وتلاشت القيم ولم يعد للناشئة بوصلة تهديهم. ففي زمن الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي كان المجتمع والمحيط، برغم الحرب على الأخلاق، يمثّل الحاضنة الخلفية للأسرة، فهو يصوّب سلوك الفرد ويقوّمه ويضع الناشئة على الطريق السوي. أمّا اليوم فقد بات المحيط يشكّل خطرا على الأطفال والشباب بعد أن استقال المربّون وكلّ الفاعلين في المجتمع المدني. فالقبضة الأمنية الشرسة وسابقة تجفيف المنابع وخطّة تدمير التعليم التي انتهجها المخلوع بن علي لم تكن خطرا على حركة النهضة فحسب بل كانت خطرا ووبالا على كلّ الشعب التونسي. حيث دمّرت القيم من جهة ومنعت كلّ محاولة للإصلاح والترميم. وما يؤسف له أنّ بعض القطاعات التي كانت تمثّل الدرع الواقي والعمود الفقري للتربية والتعليم والتوجيه تمترست من أجل الدفاع عن مصالحها المالية ولكنّها لم تندفع من أجل استعادة دورها التربوي والتوجيهي والإصلاحي. والعجب كلّ العجب من الطبقة السياسية التي استماتت من أجل معارضة قانون المصالحة المالية واسترداد الأموال المنهوبة ولكنّها لم تحرّك ساكنا من أجل التصالح مع الهوية واستعادة الأخلاق المهدورة. انفلات المؤسسات الإعلامية بعد الثورة كان من محاسن الانفلات ،الذي رافق الثورة، تحرير النّاس من الخوف وبث الرعب في قلوب رجال النّظام السّابق. وفي المقابل كانت له انعكاسات خطيرة على الوضع الاقتصادي والبيئي والأخلاقي. ومن مظاهر هذا الانفلات كثرة الاعتصامات والعزوف عن العمل وتضاعف التهريب وانتشار البناء الفوضوي والانتصاب الفوضوي... وأصبح ما كان يروّج تحت مظلّة الاستبداد خلسة، يروّج اليوم جهارا نهارا تحت مظلّة الديمقراطية وحرّية الرأي وحرية الضمير. بمعنى أنّ المجرمين والمفسدين في الأرض غيّروا الاسم التجاري وزادوا في نسق الفساد. ليس هذا فقط بل وساوموا الشعب بين القبول بالاستبداد السياسي أو الاستبداد الأخلاقي وانهيار القيم ؟ يحدث هذا في ظلّ صمت عديد الأحزاب السياسية والفاعلين السياسيين. وقد يكون ذلك مردّه السعي من أجل تأمين استكمال بناء المؤسّسات الدستورية واستكمال مختلف مسارات الانتقال الديمقراطي. ولكن حذاري ثمّ حذاري. فإذا لم تسع هذه الأطراف،على جناح السرعة، لاستنهاض مكوّنات المجتمع المدني من أجل التصدّي لظاهرة انهيار القيم، قد نجد أنفسنا ذات يوم وقد استكملنا جميع المسارات وبناء المؤسسات الدستورية لشعب أصبح بفعل التفسّخ الطارئ عليه،لا يتفاعل معها ولا تعنيه في شيء بل أضحت كل اهتماماته تختزل في ما عبّر عنه الحطيئة العبسي بالقول : "دع المكارم ولا ترحل لبغيتها**واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي" .