قراءة: 3 د, 10 ث كريم السليتي يستغرب الكثير من التونسيين عن أسباب استشراء الفساد في كل أجهزة الدولة دون استثناء، وعن أسباب كثرة عمليات السرقة تحت تهديد الأسلحة البيضاء (البركاجات)، وعن الغش في المواد الغذائية والغش في الامتحانات والمناظرات، وعن انتشار اللامبالاة والتقصير والاهمال واستغلال النفوذ، وعن مظاهر التفسخ الأخلاقي وانعدام القيم وغياب مظاهر الرجولة والمروءة عند الناس وعدم احترام الكبير في سن واستغلال الضغيف والفقير. كل هذه المظاهر تدل على وجود أزمة أخلاقية خطيرة تهز أركان بلادنا من شماله إلى جنوبه وتشمل المتعلمين والأميين على حد السواء والفقراء والأغنياء و الكبار والصغار. والسؤال المطروح لماذا فشلت تونس في انتاج مجتمع متحضر وذو أخلاق رفيعة. لماذا أينما حللت تحس بهذه الأزمة الأخلاقية في المعاملات والتصرفات؟. لماذا سمعة التونسيين سواء في ايطاليا أو فرنسا أو في قطر والامارات مرتبطة بجوانب سلبية مثل قلة الثقة والانتهازية المفرطة وعدم احترام الوعود والتعهدات. إن ما نراه اليوم من أزمة أخلاقية ومجتمعية كبيرة هو نتيجة لتراكمات لجملة من السياسات والإجراءات التي قامت بها الدولة التونسية على مدى عقود منذ فجر الاستقلال مرورا بالحقبة السوداء للرئيس المخلوع وصولا الى ما رافق الثورة من استغلال المنحرفين اخلاقيا لمساحات الحرية لبث سمومهم الاجتماعية والتشجيع على التمرد على قواعد التصرف الحضاري و الأخلاقي. لقد كانت سياسات بورقيبة مبنية على فرضية ان انتاج مجتمع علماني ضعيف العلاقة بالتدين سيتنج شعبا متحضرا على غرار البلدان الاسكندنافية وسويسرا. وجاء بن علي بسياسة الفوضى الأخلاقية الخلاقة ظنا منه أن ضرب النواميس الاجتماعية التي تفرض الاحترام داخل المجتمع سوف يريحه من التيارات الإسلامية حيث لن تجد لها موطأ قدم في المجتمع. وعمل على تشجيع كل انواع الرذيلة عبر فتح الخمارات والمواخير الرخيصة الثمن في اغلب المدن والقرى الداخلية. كما عمل على تجفيف منابع الأخلاق و الدين في البرامج التعليمية وحاول تعويضها بثقافة اللهو والمجون والتعصب للجمعيات الرياضية. لكن هذه السياسات المجتمعية المحاربة في عمقها للجوانب الدينية والأخلاقية أنتجت شيئا مختلفا تماما عما كان يرمي اليه منظرو تجفيف منابع التدين ، حيث تبين بالكاشف أن شخصية التونسي اذا تم تجريدها من الوازع الديني والأخلاقي تصبح شحصية تستحل كل شيء لتنتج شيئا فشيئا وحوشا بشرية لا رحمة في قلوبها ولا انسانية. بل إن هذا الجيل اللاأخلاقي صارت له جرءة كبيرة على محاربة وتشويه الأقلية التي مازالت تحافظ على جزء من أخلاقها وإنسانيتها. والأمر لا يتعلق بالمستوى التعلمي فأغلب المورطين في قضايا فساد وفضائح تحرش هم من خريجي الجامعات والدراسات العليا. اليوم إذا خرجت من بيتك لا تأمن على نفسك ولا على أفراد عائلتك ليس فقط من قطاع الطرق بل أيضا من الطبيب الذي سوف يداويك ومن التاجر الذي ستشتري منه مواد غذائية ولا تأمن على أطفالك من معلمهم أن يتحرش بهم ولا من الشرطي والقاضي ان لا ينحازفي تطبيق القانون. اذا الأمور صارت أشبه بالغابة التي لاثقة فيها بين أفرادها. وهذا مؤشرا خطير جدا خاصة في ظل وجود صحافة وإعلام ينشر التفرقة والفتنة بين الناس ويزين لهم الباطل ويشوه الحق. إن الأزمات الأخلاقية أشد خطرا من الأزمات الاقتصادية وأخطر حتى من الفقر. لأنه لا يمكن لبلد نسبة هامة من شعبه يتصف بالانتهازية أن ينتج اقتصادا قويا موثوقا فيه. إن أولى الأولويات للحكومات القادمة هي توعية الناس بأهمية الالتزام الأخلاقي واحترام القواعد المجتمعية وتأصيل الناشئة في دينهم حتى ينمو الوازع الديني والضمير الانساني لديهم فيكونوا مواطنين صالحين وملتزمين أخلاقيا. إن الاصلاح يبدأ بوضع مدونات سلوك مفصلة داخل مؤسسات الدولة ومحاسبة الفاسدين بلا رحمة ليكونوا عبرة لغيرهم. كما أن إصلاح البرامج التعليمية لتشمل الجوانب التربوية والأخلاقية والحرص على انتداب وتوظيف منهم على خلق وتدين لضمان ايصال قيمهم وأخلاقهم للنشء من شأنها أن تنتج جيلا ملتزما. إن اصلاح الاعلام التونسي ووضع ضوابط اخلاقية وقواعد حضارية ومجتمعية صارمة يتعين احترامها هي أيضا من بين الخطوات التي ينبغي اتخاذها ومراقبة تنفيذها لضمان ان يلعب الاعلام دوه الايجابي في المساهمة في الخروج من هذه الأزمة الخطيرة التي يتجنب السياسيون الخوض فيها. كاتب وباحث تونسي