تهالك الشيخ على كرسي متهالك في مقهى الزمن الجميل استرد أنفاسه ثم أشعل سيجارة وطلب قهوة مرّة. لعن الزمن الوغد والذين توغّدوا. تحسس ساقه الخشبية، ترحّم على ساقه اليمنى التي دفنها في بلاد الشام عندما شارك مع الفرنسيين في الحرب. خمسون عاما وهو يبلع أحزانه منذ ترك زوجة وولدا في مدينة زحلة بلبنان. جذب نفسا عميقا من سيجارته، تنهد ثم نظر الى السماء. السماء حبلى بالغيوم السوداء الداكنة، الكون حزين والطبيعة تنذر بغضب مدمّر ولا أثر لانفراج بعد ما خيرت الشمس الهروب والتواري خلف السحب المتراكمة المتراصة. سب الشيخ الزمن الخسيس، سبعون خريفا مرّوا والأرض هي الأرض لم تتغير. سبعون خريفا مروا وهو ينتظر الطوفان الذي تأخر طويلا. كان لابد من الطوفان كي تغتسل الأرض من أدرانها. بصق أمامه، ثم سعل بشدّة. أعاد البصاق مرددا: «هناك الكثير من الاشياء التي تستحق ان نبصق عليها في هذا العالم». أشعل السيجارة الثانية، طلب قهوة أخرى، لعن النادل والزمن الخسيس والسائرين نياما أمامه. حطت ذبابة على أنفه الطويل المعقوف، حطت على موضع جرح غائر قديم، لعن الذباب وأب الذباب. كثر الذباب هذه الايام، فوق الموائد والطاولات والكراسي. الكراسي هذه الايام يعمّرها ذباب كبير يرفض ان يغادرها. يتقاتل الذباب على الكراسي بشراسة. هكذا ردد الشيخ بصوت أجش لاعنا هذه المزبلة الكبيرة. لعن الشيخ ذبابة أخرى حطت على الجبين المتغضن ورفضت ان تغادره. هل يحط الذباب على الخدود الملساء والزنود الصقيلة؟ وهل يفرّق الذباب بين قذارة النفس والجسد؟، هكذا تساءل لاعنا الذباب وأب الذباب. لوّح بعصاه فطارت الذبابة بعيدا. قامت بحركات لولبية استعراضية وحطت على عينه اليمنى الحمراء المتورمة، ثم على شاربه الطويل فخده الذي رسم عليه الزمن خطوطا متداخلة متشابكة. طارت الذبابة ثم حطت من جديد على جيب سترته. هو يعرف ان الذباب يحب الجيوب كثيرا. ردد بصوت عال: الذباب وقح هذه الأيام. أطلق ضحكة عالية، فبانت أسنانه الأربعة الصفراء الطويلة ثم خاطب الذبابة قائلا: «قد تنالين من كل شيء في بدني الا جيوبي فهي أفرغ من فؤاد أم موسى». أشعل سيجارة ثالثة، سعل بشدة، سبّ الزمن الوغد وبصق أمامه. تكاثر الذباب من حوله، طوّقه الذباب وحاصره. حط الذباب على يمينه، فوق الكرسيّ الشاغر لصديق العمر. على يمينه كان يجلس «الشاوش» عمارة قبل ان يغادر دون رجعة. لم يعد يذكر من صديق العمر غير قولة كان يرددها منذ زمن بعيد «اتخذت بغداد، اتخذت بغداد». أشعل السيجارة الرابعة، تكاثر الذباب فوق الجيب الأيمن لسرواله المتسخ. لوّح بعصاه لكن الذباب كثيرا ما يعاند، يطير ثم يعود مرة أخرى ليقلق راحته. أشعل سيجارة خامسة، بصق على الذباب الكثير أمامه. ردد في نفسه: سأحبسك أيها الذباب القذر في قفص كبير وسأمنع عنك الكراسي والموائد والولائم. سترى أيها الذباب القذر. الذباب قوي هذه الايام وهو لا يقدر الا على البصاق عليه. الذبابة الزرقاء الكبيرة تدور حوله، تغمز بعينيها تفتح فمها الذي غدا كبيرا ثم تخطف السيجارة الخامسة وتطير عاليا. ينفض الذباب من حوله. يرتاح من ظلم الذباب وجبروته، يطلق ضحكة الانتصار، أخيرا هرب الذباب، هرب دون رجعة، خطف السيجارة الخامسة التي لم يعبّ منها غير أربع أنفاس لكنه ذهب ولم يعد. أشعل السيجارة السادسة. هذه السيجارة ستكون لذيذة دون ذباب، هذه السيجارة سيتمتع بها كثيرا. غريب أمر الذباب هذه الايام، عادة ما يتكاثر أول الخريف وهذا اليوم الخامس من أول شهر من فصل الشتاء وهو يتكاثر رافضا الرحيل متمسكا بالبقاء مقاتلا من أجله. ينظر الى الكرسي الشاغر للشاوش عمارة، بتذكر كلماته «اِتّخْذِتْ بَغْدَادْ، اِتّخْذِتْ بَغْدَادْ». ينظر الى الكرسي الشاغر الذي رفض ان يعمره أحد منذ رحل صديقه، يتنهد ثم يردد «العالم الكل اتخذ آشاوش عمارة، العالم الكل اِتخِذْ». عبّ نفسا سادسا من السيجارة السادسة. قرّب كأس القهوة من فمه، تثبت مليا في القهوة التي يسبح فيها الذباب. ستّ ذبابات سمان يأكلن ست ذبابات عجاف في القهوة المرّة. الذباب لا يترك شيئا. الذباب يعمّر الكراسي ويتطاول على الناس ويأكل بعضه البعض ويشرب القهوة المرّة، غريب أمره!! هكذا ردد وهو ينظر الى حجمه الذي غدا كبيرا. أصبح الذباب أكبر من الخنافس، تكسر الكأس أمامه، أحدث قرقعة، سالت القهوة السوداء المرّة فوق الطاولة وعلى ساقه الخشبية. أحدث سيلانها سيولا سوداء غطّت أرضية المقهى والرصيف والشوارع المحاذية. ثار الذباب. واحدة حطت على عينه فحجبت عنه الرؤية. واحدة حطت على أنفه فمنعته من التنفس. واحدة حطت على فمه فمنعته من الصراخ. اثنتان طوّقتا يديه الى الخلف. واحدة سدت أذنه اليسرى التي ما تزال تسمع. فاحت رائحة النتونة من كل الأرجاء، لكن الشيخ غدا لا يرى ولا يسمع ولا يتنفس ولا يتحرك. عندما طار الذباب نزل المطر مدرارا وكان الشيخ جثة هامدة. نجيب البركاتي (عضو نقابة كتاب تونس)