من مساوئ العهد البائد، اقتصار فن تونس على لون واحد و»تيمة« وحيدة وذائقة فنيّة أحادية، مما أفرز انتشارا سافرا وغير مبرّر للاغنية التراثية التي لا يشك احد في قيمة بعضها الجمالية، لكنّ الغريب العجيب في هذا الخصوص ان يصبح جلّ، كي لا نقول إنّ الفن التونسي مخصوص للتراث دون غيره من الموسيقات الا في ما ندر فترى فناني البلاد يسارعون مع بعض الاستثناءات، طبعا للغوص عميقا في نبش المخزون الغنائي التونسي والعربي أيضا اللّذين تجاوزا عمرهما الزمني الخمسين عاما حتى لا تقع محاسبتهم ماليا بفعل التقادم وسقوط مبدأ حق الملكية الادبية وحقوق التأليف لمبدعها الأول الذي تمّ استنزافه حيا وميتا، وأجره على اللّه والاجر الثمين السمين لبعض المدّعين من معشر الفنانين الذين استباحوا التراث بدعوى تهذيب التراث والحال انهم يعملون متقاعسين ومتواكلين على نهبه وتعذيبه. والاكثر ايلاما في كل ما تقدم ان بعض هياكل الدولة السابقة كانت تشجّع على هذا النهب والنصب على الآذان العطشى للجديد المفيد، من خلال برمجة بعض هؤلاء المستبيحين لاغاني غيرهم لينسبوها الى أنفسهم دون وجه حق، فتتمّ برمجتهم في كبرى المهرجانات الثقافية التونسية انطلاقا من مهرجان المدينة الرمضاني، وكدت اقول مهرجان المدينة التراثي، مرورا بالحفلات الوطنية وماهي بوطنية وصولا الى العروض الجماهيرية الصيفية. فبات الفنان التونسي عن وعي ممنهج من سلطة الاشراف المتخلية عن شرف طرح الفكر الجديد والثقافة البديلة في ظل تكريسها لسياسة ثقافية تنشيطية لا مرجعية فنان الاستهلاك المحض للقديم من الاغاني لا غير، وتحوّل المتقبل إلى مردد لها بمناسبة او دونها وكأنه جوقة من الكورال الطيّعة والمطيعة لهذه السياسات المثمّنة لكل ماض فات والقاطعة مع كل ابتكار جاد.. حتى يظل الفنان والمتقبّل على حدّ سواء أسير مقولة: »زمن الفن الجميل«. وكأن هذا الزمن أو الذي يليه غير قادران على ابداع فنّهما الجديد. فمن غير الجميل اطلاقا في مثل هذا الظرف الاستثنائي والحسّاس من تاريخ تونس الثورة ان تقتصر ثروات فنّنا الغنائي اليوم على التراث بما يعنيه هذا الاصرار من اقرار ضمني وصريح على ان فناني هذا الجيل غيرقادرين على صنع فنّهم الجميل الذي يتوافق وقدرة هذا الشعب العظيم على التغيير. ومن هنا وجب على وزارة الثقافة والمحافظة على التراث التونسي اليوم، وقبل اي زمن مضى القطع مع هذه النظرة الدونية لفناني الجيل الجديد وفنّهم البديل في تمجيد واضح ومفضوح لفن السلف وكأن تونس عقيمة عن الانجاب وإتيان العجب العجاب في المجالات الفنيّة. على وزارة الثقافة والمحافظة على التراث ان تستنثي من أجندة اهتماماتها في الحفاظ على التراث الاغنية التراثية، وان تضرب بقبضة من »تجديد« على يديْ كل من تسوّل له نفسه مجددا استباحة اغاني الغير وألحان السلف وكلمات الآباء من الشعراء حتى يصنع هذا الجيل غناءه الخاص وكلماته الخاصة ولحنه الذي يشبهه ويميّز عصره... فبالجديد يصنع التاريخ. وعلى هذا النحو لن نشاهد بعد الان ما سبق وان شاهدناه بالامس القريب ممتعضين آسفين على حال الفن والفنانين من حروب شعواء بين فناني الدرجة الثالثة على أحقية امتلاك احدهم لاغنية من اواسط القرن العشرين يتم إحياؤها وهي رميم بدعوى العودة إلى زمن الفن الجميل. كلّ عصر له فنّه الجميل ولو كره بعض المسؤولين، فالاغنية والشعر والادب والسينما والمسرح وغير ذلك من الفنون السبعة وكم بتنا نخشى هذا الرقم في زمن السبعة »الحيّة« هي الاقدر من أي فعل انساني آخر على صنع أمجادها وابداعاتها. متى آمن فاعلوها ان الفن فعل حر ومتحرر من رواسب الماضي واملاءات الماضي وسلطة الرقيب ومطيّة الرجوع إلى زمن الفن الجميل... فذاك الفن الجميل الذي كان إن سلّمنا، طبعا، بجماله وسلامته هو صنيعة عصره وظروفه وفنانيه، وفننا الذي نصبو إليه اليوم نريده فنا متحركا متجدّدا قادرا على التعبير عن هذا الجيل وعن تونس الثورة والتغيير... ولكل جيل فنّه الجميل.