لا يمكن لبلد ما أن يتطوّر ويتقدم دون وجود ادارة عصرية ذات كفاءة عالية ومصداقية ونظيفة من شوائب الفساد والمحسوبية بحيث يطمئن اليها المواطن والحريف والمستثمر ولا تكون وبالا عليه ونقمة. ففي دولة الاستبداد والفساد يقع استعمال الادارة للمصالح الخاصة وتبديد الثروات وتمتيع المتنفذين واصحاب الجاه والسلطة بشتى انواع الامتيازات والمناصب دون وجه حق في غياب رقابة فاعلة ومحاسبة نزيهة. فالولاء هو العنصر الاساسي للوصول إلى القمّة والتمكن من الترقيات والخطط الوظيفية مقابل غض الطرف وتحبير القرارات الجاهزة وتحويل المنافع والحقوق إلى غير اصحابها وقد اكتشفنا بعد الثورة المباركة هول ما أصاب الادارة من فساد ومحسوبية بحيث يعجز اللسان عن وصفه وتقديره وفك طلاسمه وكأنّ دولة بحالها اصبحت اقطاعية مباحة يفعل المفسدون بها كما شاؤوا وأحبّوا. وبما ان اغلب الموظفين الكبار قد تمّ اختيارهم لهذه المهمّات القذرة بعد ان اغدقوا عليهم الخير العميم والامتيازات الكثيرة فقد سكتوا عن الظلم وباركوا الفساد وزوّروا القرارات وابدعوا في الولاء والتصفيق والمباركة والمناشدة فاصبح من غير الممكن ان يتنصّلوا من الجريمة حتى وقعت الواقعة وجاءت الثورة وكما كانوا موالين طائعين صامدين وشاكرين لولي نعمتهم الهارب فهاهم يتسابقون في تقديم خدماتهم لمن جاء إلى المنصة في غياب المحاسبة والمكاشفة. والكلّ يبحث عن عذرية جديدة وشرعية مفقودة ولم تأته حتى في المنام صحوة ضمير أو توبيخ قيم وليس بمستغرب على من تعوّد على هذا الصنيع. ولأنّ تطهير الادارة لم يتم بعد ولم تقع محاسبة المفسدين فيها والذين مازالوا قابعين في أماكنهم يحيكون الدسائس متشبثين بكراسيهم الصدئة ولم يشبعوا بما نالهم من العهد الماضي فإنّ اهداف الثورة لن تتحقّق مطلقا فالعود الفاسد من الشجر لا يمكن ان يورق في يوم من الايام ويثمر ثمرا صالحا. وأصبحت الادارة سلطة قاهرة تخدم لصالح فئات متنفّذة بعينها وتفتك بالمواطنين وتفتكّ حقوقهم وتمنحها لهؤلاء غصبا ونصبا واحتيالا. كما أصبحت مرتعا لعديمي الكفاءة والمصفقين والمزغردين والمتسلّقين على اكتاف الاخرين والمبدعين والاحرار فكلّ من يعارض الفساد والمفسدين تصيبه لعنة القررات الجائرة فتتوقّف حياته المهنية ويدخل عنوة وقسرا في ثلاجة التجميد والتحنيط والنسيان او يبعد عن عائلته وينكّل به تنكيلا او تلفّق له التّهم ويؤتى بشهود الزّور ويطوى ملفّه إلى الأبد. وقد عاش أغلب الموظفين في نكد وفجيعة فمنهم من كابد المحن وتمسّك بمبادئه وعاف الفساد فما نال غير التهميش والاقصاء وبقي نظيفا وملفّه خاليا من الترقيات والمناصب المهمّة ومليئا بالاستجوابات والعقوبات وغيرها ومنهم من دخل في حزب الولاء والمحسوبية وعبّ من الفساد عبّا فانعمت عليه الإدارة الوظائف والامتيازات بأنواعها. وبما أنّ المحاسبة بعد الثورة لم تتمّ ولم يقع التحقيق في التجاوزات وسوء التصرّف الاداري والمالي وتجاوز السلطة والقرارات المغلوطة والتي يستشفّ منها التنكيل بالغير وتزوير الشهادات وتلفيق التّهم ومنح المناصب والمال العام لمن لا يستحقّ، فإنّ دار لقمان بقيت على حالها. فالجهاز الاداري برمّته موبوء ومتعفّن حدّ الرُّكب ولا مجال للثّورة أن تنجح وتحقّق اهدافها السّامية والنبيلة دون تغييره تغييرا جذريا وعلى أسس من الشّفافية والمراقبة الفعلية والمحاسبة وارجاع الحقوق الى أصحابها. فلابدّ من تطهير الجهاز الإداري تطهيرا شاملا وتحديد مبدأ الكفاءة عنصرًا أساسيًّا لتحمّل المسؤوليات وليس القرابة والمحسوبية والولاء الأعمى والتطبيل والتزمير. فتحديد المهام الموكولة لكلّ عون وتمكينه من الادوات اللاّزمة لتنفيذها ومنحه حرية المناقشة وابداء الرأي المعلّل وتحفيزه حسب ما يملكه من قدرات وشهائد للتطوّر الوظيفي وحمايته من الضغوط الادارية ومعاقبة من يقوم بها وتفعيل مبدأ الكفاءة الى أقصى حد ممكن ونبذ المحسوبية والولاء والشللية تعتبرمن الاسس الضرورية للرفع من مردودية الادارة حتى تقوم بدورها الفاعل. ودون ذلك سوف لن تستقيم الامور لأن من تربّى على شيء شاب عليه ولا يمكن تغيير من تعود على الانبطاح وتسلق السلالم بطرق ملتوية ومشبوهة ان يقوم بثورة على نفسه ويصنع بقدرة قادر كفاءة مفقودة وفاقد الشيء لا يعطيه كما يقولون. ومن هذا المنطلق لابد من تفعيل مقاربة جديدة بعد الشروع في المحاسبة والتطهير والتنظيف الاداري من الفساد والمفسدين بمعانقة تمشّي التصرف حسب الكفاءة او بمعنى آخر التصرف في الكفاءات وذلك للقضاء على التمشي حسب المسحوبية والاقربون أولى بالمعروف المستشري بالادارة التونسية والذي افقدها المردودية والفاعلية والجدوى كما خسرنا عديد الكفاءات المجمّدة والتي لم تتأقلم مع منظومة الفساد والتي هاجرت لينتفع من علمها الغير بعد ان كوّنتها المجموعة الوطنية. والثورة جاءت لتخلق ديناميكية جديدة في كل المجالات وتحرك السواكن والجمود وتبعث الروح والامل وتقضي على الفساد الذي نخر عظام الدولة وبدّد ثرواتها ورهن مستقبلها وحطّم أجيالها وفقّر شبابها. وبما ان الادارة هي المحرك الأساسي للحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية فإن صَلُحَت صَلُحَ المجتمع وان فسدت فسد المجتمع. واذا بقيت حليمة على عاداتها القديمة فيا خيبة المسعى لانّ الادارة هي المحرك الاساسي للتطوّر لقربها من المواطن وملامسة حقوقه المتأكدة ولا يمكن ان تكون حجرة عثة امام تطلعات ابناء الثوة كما لا يمكن الاعتماد على هيكل مريض وقد شاخ وهرم وتعفنت مفاصله وفسدت لبناء غد افضل ونقيّ من الشوائب. فالمشاكل التي تعترضنا الان والتي تكبل الارادة السياسية وتحدّ من نجاعة الاصلاحات مردّها الكلكل الاداري والذي يجذب الى الوراء وموروث الفساد ومنظومة المحاباة والمحسوبية والمحافظة على المصالح الضيّقة والتشبث بالكراسي والحنين الى الماضي التعيس.