في جوّ من التعتيم الاعلامي قام أعوان المالية بالعديد من الجهات بتنفيذ اضراب اول يوم 15 جوان 2006، ثم أتبعوه بإضراب ثان يوم 28 سبتمبر 2006 وهو ما يكشف عن تردّي الاوضاع في هذا القطاع فماهي دوافع هذه الاضرابات، وماهي المطالب المرفوعة؟ مراجعة القانون الاساسي الخاص بأعوان المالية لا شك وأنّ قطاع المالية قد شهد تحولات عميقة سواء من حيث الاهمية الاستراتيجية المتزايدة لهذا القطاع باعتبار السياسة العامة للدولة بدخول اتفاقية الشراكة اخر مراحل تنفيذها، والدخول في المنظمة العالمي للتجارة بما انعكس في تدنّي الموارد الديوانية والسعي لتعويض هذا النقص من خلال الترفيع في الضغط الجبائي العام او من خلال عدد مراكز العمل (قباضات، مكاتب مراقبة...) وعدد الاعوان بكل اصنافهم هذا التحول في مستوى الاهمية والحجم صار يستلزم، إضافة لما قامت به الوزارة من مراجعة لقوانين الجباية واساليب العمل في مختلف مصالحها مراجعة الوضع العام لاعوان المالية بمراجعة القانون الاساسي الذين ينظمهم، ان من الناحية الترتيبية او من الناحية المالية (نظام التّأجير، نظام الحوافز، الترقيات...) تحيين المنح الخصوصيّة لقد كان لواقع تهميش العمل النقابي في هذا القطاع لسنوات طويلة اثره السيئ على الوضع العام للاعوان مقارنة ببعض القطاعات الاخرى، إذ انّه، وعلى سبيل المثال، فإن منحة الاستخلاص والمراقبة، التي تعتبر اهمّ منحة خصوصية يتقاضاها الاعوان، لم يقع تحيينها برغم تتالي الدورات التفاوضية بين الحكومة والاتحاد، مما نتج عنه فقدان هذه المنحة لاهميتها ومردوديتها المالية وعدم مواكبتها لارتفاع مستوى التأجير العام، فإضافة لكون هذه المنحة التي كانت قبل عشر سنوات تساوي في معدّلها العام الثلاث مرات الاجر الشهري (لصنف مراقب)، وهي لم تعد تساوي الان اكثر من اجر شهري ونصف فإن مقاييس اسنادها قد ظهرت عليها الكثيرمن العيوب لعل اهمها عدم مراعاة الاختلافات في النسيج الاقتصادي من مرجع ترابي الى آخر وبالتالي إمكانيات المردود التي تختلف من مركز عمل الى اخر اضافة لغياب حدّ أدني مضمون يوفر حدا ادنى من الاسقرار المالي لدى الاعوان وغياب مقاييس اسناد واضحة لهذه المنحة بالنسبة لكل اصناف العملة هذا طبعا دون الحديث عن غياب اي شكل من اشكال المنح ذات الصبغة الاجتماعية. فتح باب الترقيات من النتائج السلبية الاخرى لتهميش العمل النقابي في القطاع توقف الترقيات المهنية بكل اشكالها لسنوات عديدة بما انتج حالة ركود عامة مست كل الاصناف ولعل من المظاهر الكاريكاتورية لكذا وضع ان بعض الاعوان قد خرجوا او هم على مشارف الخروج الى التقاعد دون الحصول ولو على ترقية واحدة ولئن كانت الوزارة قامت في السنوات الاخيرة بفتح بعض المناظرات الداخلية وفتحت بعض مسالك الترقية الاخرى(معهد المالية)،،، فإن مستوى القبول في هذه المناظرات المحدثة وعدم ايجاد مسالك ترقية جديدة (الترقيات الالية) مقارنة بالوضع المزمن، لايمكن له ان يصلح فعليا المظالم السابقة وان الوضع الحالي يستوجب مشاريع جريئة للاستنهاض بوضع هذا القطاع واعادة الثقة للاعوان وفتح الافاق امامهم. تحسين الظروف المادية للعمل لقد قامت الوزارة باحداث تشريعات جديدة ومجلات قانونية وغيرت الكثير من اساليب العمل وذلك لرفع مردودية قطاع الجباية غير انها قد اغفلت عنصرا مهما بدونه لا يمكن لقطاع المالية ان يرتقي الى مستوى المهام المناطة بعهدته وطنيا هذا العنصرهو الظروف المادية العامة للعمل ويتمظهر ذلك خاصة في: العديد من مراكز العمل هي عبارة عن بناءات قديمة لا تتوفر فيها، لا المقاييس العصرية للعمل، ولا حتى شروط السلامة المهنية ولعل من الامثلة المضحكة المبكية سقوط مباني بعض القباضات على رؤوس اعوانها (قباضة بصفاقس واخرى ببنزرت). حالة الاكتظاظ التي تعيشها الكثير من القباضات ومكاتب المراقبة، فإضافة الى ظهور بعض الامراض المهنية لدى الأعوان (ضيق تنفّس، حساسيّة...) فإن هذا الوضع قد عاق حتى عن تأدية الموظفين لمهامهم، وهو ما أدّى الى تدنّي المردوديّة العامة للعمل التي تحرص الوزارة على التّرفيع فيها. غياب التكييف في العديد من مراكز العمل لن نفصّل في هذا الباب كثيرا حيث ان الوزارة نفسها قد عبرت عن ذلك ولعلّه تحضرنا الآن قولة لاحد وزراء المالية السابقين في احدى زياراته لمراكز العمل «dans des conditions pareilles, je refuse de travailler... ولعلّ اعوان المالية قد استرشدوا بهذه النصيحة الوزارية الثمينة في تنفيذ اضرابهم الاول والثاني. ترسيم الاعوام الوقتيين في هذا الباب يجدر التذكير فقط، بان غالبية الاعوان الذين تم انتدابهم بشكل وقتي مازالوا وقتيين بعد مضي قرابة السبع سنوات عن انتدابهم وحسب نسق المناظرات الداخلية الموجهة لهذا الصنف فان البعض منهم سيجد نفسه (بعد عمر طويل.!) متقاعدا وقتيا.!. إحداث قانون أساسي لمأموري المصالح المالية ليس غريبا ان تقيم الوزارة الدنيا وتقعدها بعد صدور بعض الاوامر الخاصة بهذا الصنف من الاعوان لسبب بسيط هو انّ الدنيا لم تقم ولم تقعد بالنسبة لهؤلاء الاعوان فهم في وضعهم الحالي ليسوا أصحاب مهنة حرّة ولا يتمتعون بامتيازاتها ولا هم موظفون ولا يتمتعون بحقوق انتدابهم بهذه الصف غير ان الأهم في الموضوع والغريب فيه ان الوزارة لم تكلف نفسها مجرد استشارة الطرف النقابي في هذا الموضوع وهو ما يطرح اكثر من سؤال حول مدى اعتراف الوزارة بالممثلين النقابيين لهذا القطاع ومدى اعترافها بالحق النقابي عموما. بعد هذا العرض الموجز لاهم مطالب اعوان المالية لابد من التذكير بان الوزارة وقبل تنفيذ اضراب 15 جوان 2006 قد قامت باستدعاء الجامعة العامة للتخطيط والمالية ولقد استبشر الاعوان بمؤشر الانفراج هذا وعقدوا الآمال على هذه الجلسة الاولى وما يمكن أن تفتحه من مفاوضات جدية ومسؤولة حول مطالب القطاع خاصة وان الطرف النقابي قد ابدى مرونة واستعدادا للحوار، غير ان ما رشح عن هذه الجلسة هو ببساطة غلق رسمي وصريح لباب التفاوض او لنقل رفض رسمي لمبدأ فتح باب التفاوض وهو ما دفع الاعوان الى تنفيذ اضرابهم الاول وحتى بعد تأجيل الاضراب الثاني الذي كان مقررا ليوم 30 جوان 2006 الى يوم 28 سبتمبر 2006 لاعطاء الفرصة لتحريك المفاوضات فان الوزارة لم تقدم اية اشارة إيجابية من شأنها تنقية المناخ الاجتماعي العام بل واصلت في سياسة التجاهل وعدم الاكتراث مما دفع الاعوان مرة اخرى الى تنفيذ اضرابهم الثاني وهم وإن كانوا قد عبروا عن استعدادهم غير المشروط للحوار فانهم قد عبروا ايضا عن استعداد غير مشروط لمواصلة النضال من أجل تحقيق مطالبهم المشروعة، لذلك ليس غريبا ان نرى اعوان لمالية يدخلون في المستقبل القريب في اشكال نضالية اكثر حدّة، وهذا ما عبرت عنه بعض لوائح الاجتماعات العامة في بعض الجهات اذ تم إقرار اضراب ثالث بيومين في حال لم يتم فتح باب للمفاوضات بشكل رسمي وجدولة جلسات عمل مع هياكل القطاع النقابية.