إنّ بعض التبريرات التي يقدمها المثقفون حول الانقلاب الجذري الذي تشهده منظومة القيم في تونس من نزوع متزايد نحو الهجرة إلى المفاهيم الدينيّة و»القيم الأخلاقوية» في التفكير والتقييم والتحليل، لا يمكنها أن تكون سوى دليل إدانة لهم أكثر منها دليل إقناع، بل هي تعبير عن إفلاس هذا الخطاب وعدم قدرته على التموضع الثقافي رغم العقود التي قضاها سائدا في المؤسسات التعليمية والثقافية. هذا التراجع لا يعود إلى حالة جهل طارئة أصابت الشعب فجأة، نظرا لوقوعه تحت تأثير خطاب التكفير السلفي والنهضوي وإنّما يعود في جزء كبير منه إلى غربة الخطاب الحداثي عن الشارع واقتصاره على بعض الشكليات التحديثيّة الماديّة أو الخطابات التبشيريّة بقيم الحداثة التي لا تتجاوز السطحيّة بعد أن أفرغها النظامان البورقيبي والنوفمبري لمدّة خمسين سنة من مضامينها الحقيقية (إلا ما ترسّب منها في السلوك الشعبي اليومي بحكم العادة وسطوة القانون) من كلّ مدلول فكري واجتماعي وحولها إلى شكليات لغويّة وأدوات تجميليّة لتبرير حالة الاستبداد والقمع تحت مسمّى التصدّي للظلاميّة وحماية قيم الحداثة.. ولعلّ بعض المثقفين الحداثيين قد تواطؤوا بالصمت أو بالتمجيد للخطاب الرسمي للنظامين قناعة أو انتهازيّة أو خوفا من «التمدد الظلامي» واتقاء لقمع السلطة، واكتفوا بترديد هذا الخطاب اسطوانة مشروخة داخل الأوساط النخبويّة كالجامعات والمعاقل الثقافيّة التي تحولت إلى «غيتوهات» معزولة ، في الوقت الذي تمكنت فيه القوى الإسلاميّة التقليديّة من التسلّل إلى القاع الاجتماعي للمجتمع التونسي مستغلة فشل الدولة الحديثة في ضمان الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية - وهي جميعها للمفارقة مفاهيم حداثيّة - لتبسط نفوذها الرمزي وتنشر خطابها الإسلامي البديل محملة هذا الفشل التنموي والاجتماعي الذي أصاب البلاد للنخبة المثقفة التي اعتبرتها شريك النظام في الفشل وعرّابه في قمع القوى الشعبية الحقيقية، ولم تكتف هذه القوى المنغلغلة في الأوساط الاجتماعية عبر نسيج من الجمعيات الخيرية والدعوية المحتكمة على تمويلات مالية كبرى من المانحين الإسلاميين على امتداد العالم الإسلامي بذلك بل سعت إلى التمترس في القلب من الخندق الحداثي بتبني المقولات الحقوقيّة والمدنيّة وربط علاقات دوليّة مع مراكز النفوذ الديمقراطيّة من منظمات وجمعيات من خلال لوبيّاتها في المهاجر وخلق نسيج إعلامي عبر القنوات الدينية وجيوش الدعاة وبذلك ضمنت شطري المعادلة السياسيّة الامتداد الشعبي عبر تكفير النخب والدولة والتغلغل الحقوقي من خلال خلق نسيج من العلاقات الدوليّة الحقوقيّة والنجاح في تغيير الصورة النمطيّة للحركات الإسلامية المناهضة والرافضة للحداثة والديمقراطيّة التي دأب النظام وبعض النخب الحداثيّة على ترويجها. لقد اكتفت هذه النخب السياسيّة والمدنيّة بالاستعراضية في تحركاتها ولعب دور الضحية وقبول التهميش الذي فرضه عليها النظام الاستبدادي إن تعذر ذلك وأهملت الحيّز الشعبي الذي ظلّ حكرا على النظام وعلى بعض الشبكات الإسلاميّة التي سعت إلى ملء كلّ الفراغات في الأحياء الشعبيّة أو في دواخل البلاد. وهو ما جعلها تقطف ثمار نشاطها بعيد الانتخابات وتنجح في تسويق نفسها محليا بوصفها القوى الثورية الحقيقية الوحيدة المتجذرة في هويّة الشعب، ودوليا باعتبارها الوريث الشرعي للنظام والقوّة القادرة على حماية مصالح دول المركز وضمان الاستقرار. من هنا يصبح الحديث عن ثنائيّة الشعبويّة الإسلاميّة والنخبويّة الحداثيّة في البلاد مجرّد مسكنات خطابيّة لتبرير الفشل التاريخي الذي منيت به قوى الحداثة في حين أنّه حريّ بها تغيير استراتيجياتها الثقافيّة والسياسيّة نحو مزيد التجذّر شعبيّا عبر طرح بدائل تجنّب البلاد الوقوع تحت سطوة الإسلام السياسي المتحايل على مقولات الحداثة في انتظار تمكنه من أحكام سيطرته على مفاصل الدولة وإخضاعها إلى نمطه الثقافي التقليدي ولديمقراطيّة شكليّة لا تستعير من الحداثة سوى آليّة الانتخاب والصندوق وتطرد مفاهيمها خارج دائرة المجتمع.