يحيل تركيب «الدولة الصفر» مباشرة على احد أهم مؤلفات رولان بارط وأعني «الدرجة الصفر للكتابة» ولئن يحيل تركيب رولان بارط على بداية درجات الكتابة فإن تركيب «الدولة الصفر» يحيل مباشرة على نهاية مهام الدولة وعلى انتهاء صلاحياتها في التسيير والتنظيم. أما سياسة الأكوردين، فهي تحيل على طبيعة التلاعب السياسي الذي ابتدعته الأنظمة الموغلة في تحصين قساوستها دون الشعب الذي تحكمه، وتُنسب هاته السياسة إلى «الأكوردين» باعتبار أن هذه الآلة تقوم أساسا على مداعبة أزرارها باليد اليسرى، في حين تقوم اليد اليمنى بسحب وضغط الهواء داخل الآلة لإحداث اهتزازات موسيقية منتظمة... وهذا بالضبط ما نعيشه اليوم في تونس، حيث اليسار «يُداعب» بعض الأوراق السياسية, في حين يتقن اليمين إحداث الاهتزازات السياسية والشعبية في أوقات مدروسة وبحركات معلومة للامعان في تحصين مشروعه من ناحية والاستيلاء على إرادة الشعب من ناحية ثانية... اذ يرتفع الضغط في رغبة تراجيدية إلى استعادة الوقار الحديدي... وبالعودة لمفهوم «الدولة الصفر» نتبين تبعا لتتالي الأحداث الأخيرة والمواقف المعلنة من قبل مختلف أطراف الحكم في تونس أنهم بصدد نسف مقومات الدولة الثلاثة التي وضعها أهل القانون منذ قرون وهي (الأرض والشعب والسيادة). فأما الأرض، فان مشاريع التفويت فيها إلى رأس المال الأجنبي مازالت متواصلة سواء من خلال الانتصاب أو من خلال القروض المشروطة بالتملك، هذا فضلا عن انتهاك التراب التونسي أكثر من مرة خاصة من قبل كتائب نظام القذافي وأيضا من خلال فتح معابرها للثوار الليبيين إبان صراعهم مع نظامهم وعبور قوات الحلف الأطلسي من الجنوب التونسي، لتخرج علينا الحكومة الحالية «بأعجوبة» فتح الحدود للمغاربة (هكذا لا طاح لا دزوه) وتمكينهم من حق التملك!!! وأما الشعب فقد عرف مفهومه انزياحا نحو مفهوم السكان، والفرق بينهما كبير، فالشعب هو الذي يصبو إلى تغيير أوضاعه طامحا إلى التحرر والتقدم والرقي ويمارس في سبيل ذلك كل الوسائل السلمية في اتجاه إقامة مثلى تحقق له الاستقرار والكرامة والنمو على أرضه، أما السكان فهم الذين يئسوا من التغيير وانغمسوا في الآني يلاحقون ما تجود به السوق من منتوجات استهلاكية وهم ملعونون على الدوام بأقساط البنوك وفوائد الدائنين وتدثرهم القنوات التلفزية بالمسلسلات التركية وبرامج البكاء والنواح. ويسقط مفهوم الشعب اليوم بعد أن اختارت الحكومة صراع الديكة بين رؤوسها الثلاثة يتنازعون الصلاحيات ويرتبون ما استطاعوا إليه سبيلا خيوط اللعبة الانتخابية القادمة (إن حصلت). وأما السيادة، المكون الثالث للدولة، فقد أزف عهد فاعليتها وانقضى وسط مثلث برمودا (النهضة والتكتل والمؤتمر) الذي أَوقَعنَا فيه أنفسنا، فالأموال الخليجية التي أغدقت إبان الانتخابات بدأت فوائدها تظهر ولعل آخرها إهانة مواطن تونسي من قبل صخر الماطري بحماية دولة قطر وتواطئ الديبلوماسية التونسية، وقبلها أكدت حكومة «الثورة» للسعودية أن لا حاجة لنا ببن علي، وقبلها أيضا قررت الديبلوماسية الخارجية طرد سفير سوريا الذي لم يكن في تونس أصلا!!! وبعدها قصمت نفس الحكومة ظهر السيادة الوطنية لما سلمت البغدادي المحمودي لدولة بلا نظام ضاربة بذلك كل المواثيق الدولية لحقوق الإنسان فتجيبنا عنجهية الدولة الشقيقة بإحراق العلم الوطني رمز السيادة وفي ذات الأسبوع تقريبا «تهين» الحكومة الجزائرية شقيقتها التونسية بوصفها بالصبيانية والتنطع!!! سيادتنا الوطنية أيضا تُضرب على أرضنا وخارجها من خلال اللقاءات الدورية هنا وهناك لرئيس المجلس الوطني التأسيسي مع وفود أجنبية لا تركب الطائرات إلا لتملي شروطها، ولا تستقبله في الفنادق الفخمة إلا لتؤمن مصالحها المغلفة دائما بالديمقراطية وحقوق الإنسان... كل هذه القرارات والمواقف المتراوحة بين الشعبوية والطفولية وغيرها سارعت في نسق تدهور الدولة مفهوما ووجودا إلى درجة الصفر والانتهاء بها إلى شبه هيكل فارغ لا ينبئ شيئا بحيويته سوى جدران المؤسسات التابعة لهياكلها... غير أن السؤال الأهم هو إذا كانت هذه الحكومة مؤقتة فعلت ما فعلت بدولة كاملة، بجغرافيتها وتاريخها وحضارة شعبها، فماذا ستفعل في مستقبل الأيام إن أصبحت شرعية؟؟؟